لم تستطع والدة الشهيد الأسير ناصر أبو حميد ولا ذووه احتضان جثمان ابنهم في مخيم الأمعري وتشييعه لدفنه في مقبرة المخيم، بعد أن أُعلن عن استشهاده في العشرين من كانون أول (ديسمبر) 2022 جراء سياسة الإهمال الطبي المتعمد، بعد أن تُرك ضحية لمرض سرطان الرئة لينهش جسده.
الشهيد الأسير ناصر أبو حميد قضى من محكوميته البالغة 7 مؤبدات و50 عاماً نحو 20 عاماً فقط، إلى أن أُعلن عن استشهاده في سجون الاحتلال ورفض تسليم جثمانه لذويه بقرار من وزير الحرب الصهيوني بيني غانتس تماشياً مع قرار المجلس الوزاري الأمني المصغر «الكابينيت» لضرورات تتعلق بالمفاوضات على عقد صفقة تبادل للأسرى والمفقودين أي كـ«ورقة مساومة».
هذا القرار العنصري دفع عائلة الشهيد الأسير أبو حميد عدم فتح بيت عزاء لابنهم رغم استشهاده والإبقاء على حالة الحداد والحراك الشعبي إلى أن يتحرر جثمانه وكافة جثامين الشهداء الأسرى.
ويستند نظام الفصل العنصري في دولة الاحتلال لقوانين عنصرية واستعمارية بائدة، ورثها من الانتداب البريطاني، كـ«الاعتقال الإداري للأسرى» و«احتجاز جثامين الشهداء». واعتماداً على هذا القانون البريطانيّ احتجزت سلطاتُ الاحتلال منذ العام 1967 جثامين ورفات مئاتٍ من الشّهداء الفلسطينيّين والعرب بدايةً في «مقابر الأرقام»، ومؤخّراً، وبوتيرة غير مسبوقة منذ العام 2015، في ثلّاجات المعهد الشرعيّ الإسرائيليّ «أبو كبير».
حيث تُعرف «مقابر الأرقام» بـ«زنزانات الموت» وهي عبارة عن مدافن بسيطة متراصّة بعمق 50 سم تحت الأرض، محاطة بالحجارة بدون شواهد، ومثبت فوق القبر لوحة معدنية تحمل رقماً كُتب بالفولماستر، وتُعد بأنها «غير لائقة ولا تحترم جسد وقدسية الإنسان، ما يجعلها عرضة لنهش الكلاب الضالة والضباع وقد تجرفها مياه الأمطار والسيول».
ويشار إلى أن الكنيست الإسرائيلي كان قد صادق بالقراءة التمهيدية في 27 شباط (فبراير) 2018 على قانون احتجاز جثامين الشهداء بالأغلبية، وبموجب مشروع القانون «لا تعيد الشرطة الجثث لذويهم، إلا إذا تأكدت من عدم تحوّل الجنازة لمسرح لـ«التحريض» أو لدعم المقاومة». وأصدرت المحكمة العليا في دولة الاحتلال عام 2019 قراراً يتيح للحاكم العسكري احتجاز جثامين الشهداء ودفنهم مؤقتاً، وفي أواخر عام 2021 تبنى وزير جيش الاحتلال بيني غانتس سياسة عدم تسليم جثامين الشهداء الفلسطينيين.
أكثر من 300 فلسطيني وفلسطينية منفيّون ومعتقلون تحت تراب أربع أو خمس مقابر أرقام، وُثقت أسماؤهم وقصصهم في الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء المحتجزة، والتي كانت انطلاقتها مع توجه عائلة الشهيد مشهور العاروري سنة 2008 لمركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان لتقديم التماس للمحكمة العليا الاسرائيلية، مطالبين بحق عودة ابنهم واخيهم إلى قبره، طالبوا بحقه في الموت والدّفن تحت اسم وشاهد وإمكانية لزيارته. ولكن عوامل الطبيعة من أمطار ورياح واهتزازات في التربة جرفت عظام بعض الشهداء، كما كان الحال مع الشهيد مشهور العاروري، الذي لم يطابق الحمض النووي في فحصه الأول، والسبب ان عظامه اختلطت مع شريكاه في عملية لينا النابلسي الشهيدين أحمد زغارنة وحافظ أبو زنط، وشريكاه في زنزانة الموت أيضًا.
أكثر من 300 فلسطيني وفلسطينيّة أراد لهم ولهن المحتل أن تُمحى أسماؤهم من التاريخ بحجة منع تحوُّل جنازاتهم/ن إلى مظاهرات تعظيم للشهداء وأراد احتجازها كرأس مال تستفيد منه في صفقات تبادل مستقبلية. ولكن الحقيقة تقول غير ذلك، في اشتراط الاحتلال عدم تشريح الجثامين عند تسليمها لذويها خشية اكتشاف سرقة أعضاء أبنائهم وإجراء اختبارات طبية على أعضائهم. فالاحتلال لا يحترم حرمة الأحياء حتى يحترم حرمة الأموات.
وكانت الدكتورة مئيرا فايس وهي خبيرة إسرائيلية في علم الإنسان كشفت في كتابها «على جثثهم الميتة»، عن قضية سرقة أعضاء الشهداء الفلسطينيين في معهد أبو كبير للطب الشرعي في تل أبيب، وهو ما أقر به يهودا هس، المدير السابق لمعهد أبو كبير بسرقة الأعضاء بين الانتفاضتين الأولى والثانية بموافقة القانون.
الاحتلال لا يكتفي بسجن الأحياء الفلسطينيين ولا احتجاز جثامينهم بعد الموت، بل يطالب بإعدام الأسرى وفق قانون «بن غفير» وتهجير الفلسطينيين من بيوتهم وهدمها وإعدامهم بالشوارع واعتقالهم وترهيب أطفالهم، فهو يخشى مواكب تشييع الشهداء ورثائهم وإقامة النصب التذكارية وإحياء ذكراهم السنوية، ويخشى من هتافات شعب. قصص التهجير والنفي والشتات والإعدام والاعتقال والاقتحام، هي قصص كثيرة في أرشيفنا المُغيب والمدفون.
أمام تلك الوقائع الميدانية، لا بد من إقامة متحف وطني للشهداء، وأيضاً توفير عناصر القوة والصمود والمواجهة الميدانية الشاملة، وتفعيل الدبلوماسية الرسمية والشعبية بإحالة قضايا الأسرى وملف جثامين الشهداء المحتجزة في «مقابر الأرقام» و«ثلاجات الموتى» إلى محكمة الجنايات الدولية والأمم المتحدة باعتبارها جرائم حرب، لمقاضاة نظام الفصل العنصري الإسرائيلي بمنظومته الأمنية والقضائية أفراداً وجماعات، لإجباره على الإفراج عن جثامين الشهداء.
إن إجراءات دولة الاحتلال باحتجاز جثامين الشهداء في مقابر الأرقام وثلاجات الاحتجاز، تشبه إجراءات النازية التي كانت تحرق جثامين القتلى. فإسرائيل هي الوحيدة التي جعلت من المقابر وثلاجات الاحتجاز زنازين للشهداء، وما زالت تحتجز (117) جثماناً في ثلاجات الموتى بينهم (12) طفلاً وعدد من الأسرى آخرهم الشهيد ناصر أبو حميد، كما تحتجز (256) جثماناً في «مقابر الأرقام» و(74) جثماناً مفقوداً. بينما يقبع في سجون الاحتلال أكثر من (4700) أسير بينهم (160) طفلاً و(35) امرأة بينهم (550) أسيراً مريضاً منهم (18) مصابين بالسرطان والأورام يواجهون الموت بأية لحظة.
تختلف ادعاءاتُ الاحتلال وتبريراته لاحتجاز الجثامين؛ تارةً يستخدم تهديد الأمن، وتارةً يستخدم ادعاء تبادل الأسرى، وتختلف الأسس القانونية التي يتكئ عليها؛ تارةً يلجأ إلى لائحة طوارئ بريطانيّة، وتارةً يسنُّ قوانينَ وقراراتٍ جديدة. أياً كانت التبريرات المُعلنة والأرضية القانونية، فإنّ سياسات التحكم بالجسد الفلسطينيّ «الميّت» وتجميده جزءٌ من شبكة القمع الإسرائيليّة التي تسعى دوماً للانتقام من الشّهداء والتمثيل بأجسادهم. يدرك الاحتلال الذخيرة الرمزيّة التي يكتنزها جثمان الشهيد، ويدرك أهميةَ التشييع كرافدٍ سياسيّ وثوريٍّ يحوّل الشّهداء نماذج للمحاكاة، ولذلك فهو يسعى إلى تجريد الفلسطينيّين من هذا الأفق وعقابهم حتى بعد موتهم