ركن فؤاد السيارة في مكان بعيد عن منزله، كان الجو باردًا وعقارب الساعة تُشير إلى منتصف الليل، يُمسك بكلتا يديه ما اشتراه من "القهوة والحليب"، حاول قدر المستطاع أن يُسرع للوصول إلى إخوته الصغار؛ ليقدم لهم ما طلبوه، اتخذ طُرقًا ملتوية؛ فاصطدم بإغلاق الحارة الثانية، فنظر يُمنة ويُسرةً؛ ليجد مجموعة من الشبان يحملون الحجارة.
في تلك اللحظات أدرك الشاب فؤاد محمود عابد (18 عامًا) أن قوات الاحتلال الإسرائيلي أغلقت كافة الطرق، وحاصرت مدينة جنين ومخيمها بشكل كامل، وأصبح الوصول للمنزل ضربًا من الخيال؛ لكن ماذا يفعل الآن؟ أين يذهب؟ كيف يطفئ النار المشتعلة في قلب والديه؟ أسئلة تجول في خاطر فؤاد والجواب واحد، "لا تراجع فإخوته الصغار ينتظرون الحليب".
تقدم فؤاد خطوة وراء خطوة، صوت إطلاق النار كان بعيدًا عن الطريق الذي يسلكه، يرافقه محمد سامر حوشية (21 عامًا)، وما أن وصلا إلى منتصف الطريق حتى فاجأهم قناص إسرائيلي غادر كان قد احتل عمارة سكنية، ونصب كمينًا للمقاتلين.
أطلق القناص رصاصاته الغادرة مباشرة صوب فؤاد ورفيقه محمد، دون أن يشكلا أي خطرِ على جنود الاحتلال، ليُصاب فؤاد بـ6 طلقات نارية، أما رفيقه محمد فقد أصيب هو الآخر بعدد من الرصاصات القاتلة.
لم تنتهِ جريمة القناص الإسرائيلي القاتل هنا، فقد تمادى في جريمته، إذ أكد عم الشهيد فؤاد عابد لـ"شمس نيوز": أن القناص الإسرائيلي منع سيارات الإسعاف من نقل جثمان فؤاد ورفيقه محمد لمدة تزيد عن ساعة كاملة".
في تلك اللحظات كان عم الشهيد محاصرا في أحد المساجد لا يستطيع الخروج بسبب قوات الاحتلال؛ لكنه تلقى اتصالات عدة تؤكد إصابة فؤاد ابن شقيقه، ذاك الشاب الخلوق الملتزم دينيًا وأخلاقيًا والابتسامة لا تفارقه وجنتيه.
الشاب فؤاد (18 عامًا) لم يُكمل دراسته، فهو الابن الأول للأسرة المكونة من (3 فتيات وطفل 4 أعوام) كان بمثابة الأب لهم والصديق والصاحب، فمعاملته من قبل الأسرة كانت مختلفة عن الأبناء كافة، يقول عمه: "فؤاد كان بمثابة الصديق لوالده ووالدته".
في السنوات الأخيرة يقول عمه: "اشتدت صلابة فؤاد، وأصبح يتفاعل كثيرًا مع القضية الوطنية، وينفعل كلما سمع عن استشهاد أبناء عمه، أو أحد جيرانه، أو أصدقائه، أو أي إنسان من أبناء شعبنا سواء في جنين أو غيرها".
تأثر فؤاد كثيرًا بجرائم قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد أبناء شعبنا، كان والده يخشى عليه؛ فهو الابن الأكبر والسند الوحيد له، فجاءت فكرة أن يتزوج فؤاد ليهدأ قليلًا ويبقى في البيت؛ لكن فؤاد لم يضع تلك الحسابات في رأسه.
قبل أيام قليلة من استشهاده، كان فؤاد يجلس أمام البيت يقهقه بصوت عالِ، يلعب مع الأطفال وأصدقائه، وعندما شاهد عمه، اقترب فؤاد كثيرًا وطلب من عمه أن يلتقط صورة "سلفي" بكل سرور وافق عمه الذي لم يكن يدرك أن تلك الصورة التي التقطها فؤاد ستكون صورة الوداع و ستصبح ذكرى من ذكراه الطيبة.
قطع شريط الذكريات التي تحدث بها عم الشهيد فؤاد، صوت الرصاص الشديد والاشتباكات عنيفة بين قوات الاحتلال والمقاومين من مقاتلي جنين، في تلك اللحظات شاهد عم الشهيد سيارة الإسعاف تحمل شقيقه وزوجته متجهين إلى المستشفى، هنا أدرك أن وضع فؤاد الصحي صعب جدًا.
وصلت سيارة الإسعاف مسرعة إلى مستشفى ابن سينا في جنين، كانت المستشفى مليئة بالناس، أطلق سائق الإسعاف الصوت المرتفع ليخترق الحشود الكبيرة أمام ثلاجات الموتى، لم يكن أمام والدي الشهيد فؤاد إلا أن يدركا أن نجلهما قد نال شرف الشهادة.
يروي عم الشهيد تفاصيل تلك اللحظة المؤثرة كما سمعها من أصدقائه وجيرانه: "ظل والدا الشهيد فؤاد عابد يودعان نجلهما قرابة ساعة كاملة، غير مصدقين أن نجلهما قد استشهد، قبل أن يتمكن الأهل والجيران والأصدقاء من إبعادهما عن ثلاجات الموتى".
كانت الأم تحاول أن تحمي نجلها من البرد القارص، فألقت بجسدها على جسده الباري كي تدفئ جسده؛ لكن الروح قد صعدت إلى السماء وبقي الجسد؛ ليروي جريمة إسرائيلية جديدة بحق أبناء شعبنا الفلسطيني.