العام المقبل وما سيليه من أعوام، لن يكون الكيان الصهيوني فيها قادراً على فرض شروطه على دول المنطقة كما كان يفعل سابقاً، فالتغيرات الاستراتيجية التي ما زالت تتشكّل وتتبلور ستدفع به إلى الخلف أكثر.
مع نهاية حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، انتهى عهد الحروب الكبيرة التي بدأت مع إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية، وخلال السنوات التي تلت انتهاء تلك الحرب وما تركته من تداعيات عميقة، تغيرت البيئة الاستراتيجية لـ "إسرائيل" إلى حد كبير، وتغيرت كذلك طبيعة المواجهات العسكرية التي تخوضها، فقد شكّلت حرب 1982 آخر الحروب "التقليدية" التي يخوضها "الجيش" الإسرائيلي.
حينذاك ظهر تحدٍّ جديد وهو "المقاومة"، حيث تغيّرت قواعد المعركة، وأصبحت "قوى المقاومة" اللاعب الأساسي في المواجهة، وفرضت نوعاً جديداً من "المعارك"، أُطلق عليه "الحرب اللامتماثلة"، وهي تختلف عن تلك التي تُخاض مع الجيوش النظامية، ووسائلها مختلفة تماماً عن وسائل "الحرب التقليدية"، والتي كان لدى قادة الاحتلال خبرة كبيرة فيها، وتتوفر لديهم القدرات المناسبة والأدوات اللازمة للتعامل معها. أما على صعيد المواجهة مع "المقاومة" فالأمر مختلف جملة وتفصيلاً، فإنّ "الخصم" الجديد لا يمكن ردعه بسهولة، إضافة إلى أن الوسائل المستخدمة في الحرب الجديدة تختلف أيضاً، ما يجعل التصدي لها معقّداً ونتائجه محدودة.
وقد وضعت "المقاومة" جيش العدو أمام معضلات جديدة تحتاج إلى وسائل حديثة، في الوقت الذي كان لا يزال أسيراً للوسائل التقليدية القديمة، لذلك لجأ لما يُطلق عليه في "الجيش" الإسرائيلي خطط "جَسر الهوّة"، حيث دخلت إلى الموسوعة الصهيونية مصطلحات جديدة مثل "الدفاع-المناعة القومية- الشرعية- والشراكة". إذ أصبحت المفاهيم التي سادت في العقيدة القتالية "للجيش" الإسرائيلي في الحروب التقليدية غير صالحة في "الحرب اللامتماثلة".
ولكن على الرغم من أن هذا الخليط من المفاهيم مكّن الكيان الصهيوني من التعامل بمرونة مع مراكز الثقل المتغيّرة في المعركة، إلا أنه لم يستطع أن يبلور بشكل كامل النظرية التي يمكن الاعتماد عليها في التعامل مع الواقع الجديد والمتغيّر. وبسبب عجز النظرية التقليدية عن الاستجابة للتحديات المستجدّة، يرى قادة الاحتلال ضرورة تغيير بعض المصطلحات في العقيدة القتالية للجيش، مثل النصر والحسم، وإعادة النظر في المفاهيم القديمة، إضافة إلى ضرورة إحداث ثورة شاملة في نظرية "الأمن القومي" الإسرائيلي، التي يُفترض أن تتبلور على أبواب الذكرى الـ75 لاغتصاب فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني.
سقوط أسطورة التفوق "الإسرائيلي"
وعلى الرغم من المقوّمات التكنولوجية والتسليحية الهائلة، والدعم اللامحدود الذي تتلقاه المؤسسة العسكرية في الكيان الصهيوني، إلا أن قدرته على تحقيق الانتصارات باتت أمراً صعباً، وأصبحت الصورة مشوّشة بشكل كبير، إذ ثَبُت في مرات عديدة أنه غير قادر على تحقيق نتائج حاسمة بالكفاءة والفعالية التي يسعى إليها، والأسباب في ذلك كثيرة، ومن أهمها أنّ تطور التجهيزات التكنولوجية والتقنيات العلمية، أدى إلى ارتفاع نسبة الجنود العاملين في الوحدات غير القتالية، ما ولّد لديهم شعوراً بالارتياح بسبب ابتعادهم عن المواجهات المباشرة، إضافة إلى رفض قسم كبير من الجنود الآخرين الزج بأنفسهم في المواجهات العسكرية المباشرة، لأن احتمالات نجاتهم منها غير مؤكدة، ويجري التعامل مع الحرب من خلال النيران البعيدة، وعدم استخدام الجنود أو القوات فأصبح جندياً كسولاً يعجز عن المواجهة الميدانية المباشرة عندما يتم تدمير دبابته أو موقعه الحصين.
في هذا الإطار يقول اللواء "إسحاق بريك" رئيس لجنة الشكاوى السابق في "الجيش الإسرائيلي" (هناك ضعف وعيوب خطيرة يمكن أن تكشفها أي حرب مستقبلية يواجهها "الكيان الصهيوني". وأشار إلى أن الوضع "اللوجستي" داخل "الجيش الإسرائيلي " يمر بحالة من "الفشل والإخفاق"، وأضاف بأن ذلك الفشل سيوقف الجيش عن شن الحرب متعددة الجبهات، وسيضع "الجيش الإسرائيلي" في مأزق في الساعات الأولى من الحرب "متعددة الميادين" المقبلة، ولن يسمح له بمواصلة القتال أو تحقيق الانتصار).
وبالتالي فإن استراتيجية "العدوان" التي بُنيت عليها العقيدة القتالية "للجيش" الإسرائيلي، والتي أخفقت في ردع المقاومة في جولات الصراع السابقة، لن تصل إلى غايتها، ولن تمكّن جيش الاحتلال الصهيوني من تحقيق النصر، وحسم المعركة بشكل نهائي في المستقبل، ما يعني سقوط أسطورة التفوق التي كان يتغنى بها، والتي انهارت وسقطت أمام المقاومة في فلسطين ولبنان.
التحديات الأمنية "لإسرائيل" في عام 2023
يدخل الكيان الصهيوني، مع بداية السنة الجديدة 2023، وضعاً متعدد التحديات الأمنية والاستراتيجية، وهو الوضع العام الذي يعيشه الإسرائيليون منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن، لكنه يتميز هذه المرة بالصعوبة الكبيرة في معالجة القضايا المختلفة التي تبرز عند اتخاذ القرارات وفقاً للمبادئ والأولويات الموضوعة في الماضي، والتي وجّهت السياسات المتبّعة سابقاً داخل "المنظومة الأمنية الإسرائيلية"، ويجري كل ذلك في ضوء الخلافات في الرأي والجدل الدائر، الذي يبرز بوضوح من خلال الحوارات الداخلية على المستوى الاستراتيجي، وحتى على المستوى العملي أيضاً.
فعلى الرغم من أن الكيان الصهيوني يمتلك اقتصاداً قوياً يتمتع بقدرات صناعية فائقة، وحداثة تكنولوجية متميزة، إلا أنه يعاني من الوضع الأمني الهش، في ضوء العدد الكبير من المسائل القابلة للانفجار، وعلى رأسها جميعاً، مسألة الملف النووي الإيراني، واحتمالات اقتراب إيران من "نقطة الحسم" في هذا الإطار. كذلك الوضع الهش والقابل للانفجار في أي لحظة مع حزب الله، رغم سحب فتيل أزمة حقل غاز "كاريش"، إضافة إلى تصاعد المقاومة المسلحة في مدن الضفة الغربية المحتلة، وتحوّلها إلى معضلة حقيقية يفشل الاحتلال في تجاوزها أو حلّها رغم "كاسر الأمواج" الذي تحطّم على صخرة صمود وعنفوان أبطال جنين ونابلس وكل المدن الأخرى.
كذلك الدور المهم والمحوري الذي يقوم به الفلسطينيون داخل المدن المحتلة عام 1948، مع عدم إغفال المقاومة في قطاع غزة، والتي تحولت إلى كابوس يؤرق قادة الاحتلال من دون أن يتمكنوا من الإفلات منه. يُضاف إلى كل ذلك الانقسام الملحوظ داخل المجتمع الصهيوني، والذي يصفه البعض بأنه ربما يكون التحدي الأكثر خطورة، الذي يمكن أن يواجه "إسرائيل" في المرحلة المقبلة.
ولكن قبل الخوض في التحدّيات السابقة بشيء من التفصيل، دعونا نشير إلى جزء من الرؤية الإسرائيلية في هذا المجال، وذلك من خلال التعرّف على التوصيات التي قدّمتها مجموعة من الخبراء الإسرائيليين في الشؤون السياسية والاستراتيجية، خلال ورشة عمل نظّمها "معهد السياسة والاستراتيجيات" في الكيان الصهيوني، تحت عنوان "استراتيجية بعيدة المدى"، من أجل إيجاد استراتيجية "أمن قومي شاملة" تتعلق بالرؤية المستقبلية والأهداف المختلفة، وكذلك سلم الأولويات للسياسة الإسرائيلية المقبلة.
وقد تضمّنت التوصيات الدعوة إلى توثيق التعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، بصفتها الداعم الأكبر "لدولة" الكيان، فتحثّ الاستراتيجية الجديدة على مواصلة الحوار بين الجانبين من خلال العديد من القنوات، وبما يشمل كل الموضوعات والسيناريوهات، في المديَين، المباشر والبعيد. إضافة إلى السعي لتطوير وتعزيز العلاقات مع بعض الدول في المنطقة، وصولاً إلى إقامة منظومة دفاع جوي إقليمية، تواجه الخطر الإيراني بحسب الرؤية الإسرائيلية. وتتضمن "الاستراتيجية بعيدة المدى" أيضاً، تصوراً للتعامل مع الواقع الفلسطيني من خلال سياسة أكثر تصلباً من تلك التي انتهجت حتى الآن، تتعزز فيها فكرة الفصل الديمغرافي في الضفة الغربية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، على المستويين المادي والفكري.
بالعودة إلى جملة التحديات التي تواجه "إسرائيل" خلال المرحلة المقبلة، يمكن لنا أن نشير إلى 4 تحديات أساسية، سنناقشها فيما يلي بشيء من التفصيل، وسنحاول الوقوف على بعض المعطيات المهمة كي تتضح الصورة:
1- الجمهورية الإسلامية الإيرانية
منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران قبل أكثر من 43 عاماً، وضعت "إسرائيل" النظام الإسلامي الجديد في إيران في خانة الأعداء، وحاولت برفقة حليفتها الموثوقة أميركا، وبعض الأنظمة العربية إسقاط ذلك النظام، ومحاصرته، وممارسة أقصى الضغوط عليه لثنيه عن التوسّع والانتشار، بما يهدد الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة. هذا العداء الإسرائيلي ازداد بشكل ملحوظ وملموس بعد تطوير إيران لبرنامجها النووي السلمي، وقد وضع الاستراتيجيون الصهاينة هذا المشروع على رأس سلم أولوياتهم الأمنية، واعتبروا حصول إيران على سلاح نووي معضلة حقيقية يجب على العالم، وليس الكيان الصهيوني فقط أن يواجهها بالقوة، وجنّدوا في سبيل ذلك الدول الغربية والإدارة الأميركية وحلفاءهم من الأنظمة العربية "الرجعية".
وفي حقيقة الأمر فإن الموقف الصهيوني المعادي والمناوئ للبرنامج النووي الإيراني على وجه التحديد يعود لعدة أسباب، أولها أنه يشكّل خطراً داهماً على أمن الكيان الصهيوني، خصوصاً في حال تمكّن إيران من الحصول على "القنبلة النووية"، وثانيها لأنه يشكّل "قوة رادعة" قادرة على منافسة الكيان الصهيوني في المنطقة، وهذه "القوة الرادعة" تضرب في الصميم الرغبة الإسرائيلية في بناء شرق أوسط جديد تكون "إسرائيل" فيه القوة المسيطرة بلا منازع، وثالثاً لأنه يُعيد من جديد فتح النقاش والحديث إقليمياً ودولياً عن السلاح النووي الصهيوني، وما يمكن أن يتبع ذلك من مطالبات بجعل منطقة الشرق الأوسط خالية من السلاح النووي.
وهذا الأمر يُعتبر مصدر قلق "لإسرائيل" تحاول تجنّبه بكل الطرق والوسائل، لأنه ببساطة يجرّدها من معظم مقوّمات التفرد والتميز والتفوق. وفي هذا الإطار يقول الجنرال السابق، ورئيس مجلس أبحاث الأمن القومي عاموس يادلين: "إن إيران هي التحدي الأكبر والوجودي لإسرائيل، ولا سيما إذا تمكنت من امتلاك السلاح النووي"، ويضيف: "لسنا متأكدين من أن إيران ستنجح في الحصول على السلاح النووي في العام 2023، ولكنها ستتقدم نحوه بسرعة في ظل عدم وجود اتفاق نووي".
من جانبه يقول رئيس الموساد ديفيد برنياع: "إسرائيل ستحرص على ألّا تكون لإيران قنبلة نووية، لا في السنوات المقبلة ولا إلى الأبد، هذا تعهّدي، وتعهّد الموساد". تفاؤل برنياع بمنع إيران من الوصول إلى السلاح النووي، رد عليه الكاتب أفرايم غانور في صحيفة "معاريف" قائلاً: "من أين جاءت هذه الثقة لرئيس الموساد؟ لا أعلم! وأضاف أنا بخلافه، لست متفائلاً".
2- حزب الله
ينظر الكثير من الخبراء إلى حزب الله على أنه قوة عسكرية متعاظمة، تستند إلى ترسانة كبيرة من الصواريخ المتطورة التي يمكن أن تطال جميع المدن الإسرائيلية، والكثير من الأهداف الحيوية والحساسة داخل الكيان الصهيوني، إلى جانب القدرات القتالية العالية التي يتمتع بها مقاتلو الحزب، إذ حققوا خلال السنوات الأخيرة تقدماً ملموساً في التدريب ومراكمة الخبرة العملياتية، ولا سيّما بعد مشاركتهم بشكل فعّال في التصدي للحرب التي شُنّت على سوريا. ويدرك قادة الكيان الصهيوني أن المواجهة مع حزب الله في أي حرب مقبلة ستكون أصعب بكثير من حرب لبنان الثانية عام 2006.
فقد قام الحزب بعد الحرب مباشرة بتطوير القدرات القتالية لدى مقاتليه، كما قام بمعالجة نقاط الضعف التي اكتشفها من خلال تقييمه لنتائج الحرب، وباتت قدراته القتالية تثير الخوف في أوساط الجنود والضباط الصهاينة، خصوصاً الذين خاضوا تجربة القتال ضد الحزب. إذ لم يعد حزب الله في أذهان الصهاينة قوة صغيرة يمكن التعامل معها بأبسط الوسائل، وإنما أصبح بحسب اعترافات قادة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية شبيهاً بجيش صغير، يتفوق في كثير من المجالات، ويملك معادلاً استراتيجياً للردع، إضافة إلى تمكّن مقاتلي الحزب من خوض المعارك الهجينة، التي تجمع بين حرب العصابات والحرب التقليدية للجيوش النظامية، وبإمكانهم استخدام الدبابات والمدرعات ومختلف التشكيلات العسكرية الأخرى.
كما ينظر قادة الاحتلال إلى حزب الله على أنه أول من قام بتشخيص الجبهة الداخلية الإسرائيلية، بوصفها الخاصرة الرخوة في جسم الكيان الصهيوني، فقد شكّل إطلاق الصواريخ في حرب 2006 نحو العمق الصهيوني تهديداً حقيقياً للصهاينة، وهذا ما يمكن أن يتوسع في أي حرب مقبلة ليشمل كل الجغرافيا الممتدة من رأس الناقورة شمالاً، مروراً بمدن المركز، وصولاً إلى إيلات وصحراء النقب في أقصى الجنوب، مع وجود عجز شبه كامل في تصدي منظومات "الدفاع" الإسرائيلية لتلك الصواريخ.
3 - الساحة الفلسطينية
ينقسم التحدي الذي يواجه "إسرائيل" على الساحة الفلسطينية إلى 3 أجزاء أساسية، هي "قطاع غزة، والضفة الغربية، وفلسطينيي الداخل المحتل"، وتتفاوت خطورة ذلك التحدي من وقت لآخر، بحسب تطور بعض المتغيّرات على الأرض، إذ إن المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، أصبحت قوة لا يُستهان بها، وهذا ما تم إثباته في المعارك التي جرت خلال الأعوام الماضية، فلم يعد طموح تلك الفصائل في حالة "المواجهة الشاملة" إطلاق النار خلف الحدود فقط، وإنما أيضاً إدخال خلايا قتالية صغيرة تقوم بشن هجمات نوعية في العمق الإسرائيلي، على غرار ما حدث إبان عدوان 2014. وقد ازدادت خطورة هذه "المواجهة" في ظل عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على تحقيق "الردع والحسم"، رغم أنه استخدم جميع قدراته العسكرية البرية والجوية والاستخبارية والسيكولوجية. ومع ذلك باتت فصائل المقاومة الفلسطينية قادرة على خوض القتال الدفاعي المنظم بمستويات متوسطة. ففي زمن الصواريخ "شبه الدقيقة"، أصبحت "إسرائيل" تعاني من هشاشة حقيقية في حماية منشآتها الحيوية في قلبها الاستراتيجي، الذي يشكّل مركز الثقل في "الدولة"، وهو محصور في نطاق جغرافي ضيق في "غوش دان" حول مدينة تل أبيب.
وهذا الأمر يعني وفق المفهوم العسكري، أن باستطاعة المقاومة تشكيل تهديد حاسم للأمن الاستراتيجي والأمن الجاري في آن معاً، وهذا يرجع إلى أن فصائل المقاومة طورت قدراتها التنظيمية والعسكرية وفرضت سيطرتها على مساحة من الأرض، الأمر الذي مكّنها من امتلاك خصائص الجيش النظامي الذي يتبع أسلوب الحرب التقليدية، إلى جانب خصائص التنظيمات والفصائل التي تتبع أسلوب حرب العصابات، هذا إضافة إلى تهديد استراتيجي من نوع آخر، وهو سلاح "الأنفاق"، الذي فاجأ العدو في عديد المرات، من دون أن يكون لديه أي جاهزية من الناحية الاستخبارية الاستراتيجية، أو من الناحية العسكرية العملياتية لمواجهته والحد من أضراره.
الجزء الثاني هو الضفة الغربية، والتي تحولت منذ نهاية العام 2021، وعلى مدار عام 2022، إلى ما يشبه منطقة العمليات التي لا تهدأ، فأصبحت الاشتباكات المسلحة داخل المدن الفلسطينية، والعمليات الهجومية في قلب المدن الصهيونية، سمة أساسية لتلك الفترة، ما دفع الجيش الإسرائيلي إلى الدفع بأكثر من نصف جيشه إلى قرى ومدن الضفة، ولا سيما الشمالية منها، وخسر أكثر من 31 جندياً ومستوطناً في حصيلة هي الأكبر خلال السنوات الأخيرة. هذا النسق من العمليات مرشح للارتفاع في ظل حكومة "نتنياهو– بن غفير-سموتريتش" المتطرفة، وربما يأخذ منحى آخر أشد خطورة على الجانب الإسرائيلي، يمكن أن يذهب بالأوضاع باتجاه مواجهة شاملة على كل جغرافيا الضفة المحتلة.
الجزء الثالث هو الفلسطينيون داخل المدن المحتلة عام 48، والذين يشكلون حوالى 22% من عدد السكان، إذ بات هناك شعور لدى العدو بأن كل محاولات التغريب والسلخ عن الهوية الفلسطينية التي قام بها خلال عشرات السنين قد ذهبت أدراج الرياح، ولم تؤد الغرض المراد منها، وهذا الأمر ظهر جلياً في الضغط الكبير الذي شكّله أهلنا في الداخل، إبان معركة "سيف القدس" في أيار/مايو2021، والتي لا نبالغ إذا قلنا إن تلك التحركات التي قاموا بها، كانت تعادل قصف تل أبيب والمدن الإسرائيلية الكبرى وربما تزيد، وكانت سبباً رئيسياً إلى جانب صمود المقاومة في غزة، والتحركات الشعبية في الضفة، في حرص العدو على إنهاء المعركة خلال أقرب مدة زمنية ممكنة، رغم حجم الخسائر التي تعرّض لها.
- من المتوقع أن يبقى هذا التحدي يشكل هاجساً للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وربما يصبح في فترة ما في ظل تصعيد متوقّع من "الحكومة الإسرائيلية" الجديدة التحدي الأساسي الذي يواجه "إسرائيل" على الساحة الفلسطينية.
4 - التحدّي الداخلي
في الوضع الداخلي تركز "الاستراتيجية بعيدة المدى" على فكرة تثبيت "إسرائيل" كدولة يهودية ديمقراطية قوية وآمنة ومزدهرة، من أجل تحقيق ما يسمى "المناعة القومية"، التي تشكّل من وجهة نظر إسرائيلية، عنصراً أساسياً في التصدي للتحديات الخارجية المعقّدة، ويرى من وضعوا هذه الاستراتيجية أن هذا هو الهدف الأسمى الذي يجب أن يوجّه جهود الحكومة والأحزاب والمؤسسات الإسرائيلية، وذلك من أجل رص صف الداخل الإسرائيلي والعمل على تماسكه. وهو شرط ضروري لمناعته القومية الآخذة في التآكل، إذ أنه من دون "مناعة قومية" لا يمكن الصمود في وجه التحديات المعقّدة التي يواجهها الإسرائيليون.
فالانقسامات والتصدّعات العميقة التي نشأت خلال الأعوام الماضية، وتصاعد وتيرة الاستقطاب الداخلي، الذي يعبّر عن عمق التناقضات الاجتماعية والعرقية في الجمهور الإسرائيلي، التي تعززها السياسات العنصرية التي باتت ظاهرة وملحوظة، كل ذلك يشير إلى مزيد من الشرخ في الفترة المقبلة، بما يهدد بما لا يدع مجالاً للشك استقرار ومتانة "الدولة"، وينذر بمزيد من التدهور على مستوى العلاقات الوطنية. هذا الأمر دفع العديد من الخبراء الاستراتيجيين الصهاينة إلى دعوة الحكومة الجديدة لإعادة النظر في السياسة الإسرائيلية الداخلية، وتغيير النهج المتبع لمعالجة الكثير من القضايا التي تعنى بالشأن الداخلي، وأنه ينبغي وضع خطة متكاملة للخروج من هذا الوضع خلال العام الجديد.
خاتمة:
تسود في المستويين الإسرائيليين الأمني والسياسي حالة من القلق وعدم اليقين، في واقع إقليمي مضّطرب وغير مستقر على خلفية الأحداث التي يشهدها الإقليم، ويشعر قادة الاحتلال الصهيوني بخطر كبير ناجم عن ظهور تعقيدات جديدة في الصراع، سواء بسبب العدوان المتواصل للكيان الصهيوني وانعكاسه سلباً على "الأمن القومي الإسرائيلي"، أو بسبب تطور قدرات الجمهورية الإسلامية في إيران، وحلفائها المنتشرين على بقعة جغرافية كبيرة تلامس في جزء منها حدود فلسطين المحتلة.
إضافة إلى تعاظم إمكانيات فصائل المقاومة التسليحية والميدانية سواء في فلسطين أو لبنان، وهذا الأمر يشير بوضوح إلى تغييرات ملموسة في طبيعة المعركة المقبلة، في ظل تآكل قدرة "الجيش" الإسرائيلي على تحقيق الحسم بواسطة الأدوات المتوفرة في حوزته. لهذا من المتوقع أن تزداد التحديات التي تواجه الكيان الصهيوني في العام 2023 رغم محاولة قادة الاحتلال التكيّف معها، ووضع الخطط والاستراتيجيات القادرة على التصدي لها.
العام المقبل وما سيليه من أعوام، لن يكون الكيان الصهيوني فيها قادراً على فرض شروطه على دول المنطقة كما كان يفعل سابقاً، فالتغيرات الاستراتيجية التي ما زالت تتشكّل وتتبلور ستدفع به إلى الخلف أكثر، وجبهته الداخلية ستشهد مزيداً من الانقسامات والشقوق، وعوامل القوة التي يملكها لن تكون عائقاً يمنع قوى الأمة الحية، من توجيه مزيد من الضربات لعمقه الأمني بما سيعجّل في انهياره وسقوطه.