بعد أن كانت الشبكة العنكبوتيَّة عند ظهورها وسيلة للمعرفة السريعة بما تحمله من محركات بحث رُبِطَتْ بمصادر معرفيَّة لا حد لها، ومنها الكتب الإلكترونيَّة التي جعلت التراب يعلو الكتب على أرفف المكتبات، حيث تحول الباحثون عن معلومة إلى تلك المكتبات الإلكترونيَّة التي لا تكلِّف انتقالًا، ولا تنتهي بانتهاء ساعات عمل، ويحملها الكثيرون في أجهزة اتصالهم حيثما ذهبوا، ووصولهم إلى قلب كتاب معين واستخراج المعلومة أسرع من ارتداء ملابس الخروج للتوجه لمكتبة قد يجدها مغلقة، فسرعان ما تطورت هذه الشبكة لتحمل تطبيقات إلكترونيَّة ومواقع جذبت الشباب من مكتباتهم الورقيَّة وحتى الإلكترونيَّة؛ لكونها أكثر تشويقًا وإشباعًا لرغباتهم، وهنا تحولت الشبكة من وسيلة نافعة إلى وسيلة غالب حالها واستخداماتها الضرر وضياع الوقت، وانحراف السلوك، وتسطيح العقول، وانقلب ليل الشباب خاصة إلى نهار ونهارهم إلى ليل، وضاعت الصلوات، وتراجع الجد والاجتهاد في كافة المجالات، حتى بين الموظفين وهم في أعمالهم فغالبهم يحمل هذا الجهاز الصغير ليس في جيبه وإنما في يده يعبث ويتجول في مواقع التواصل أو اللعب، تاركًا مراجعيه ينتظرون حتى ينهي جولته أو لعبته أو الشات مع أصدقائه.
وهذه التطبيقات التي تحملها هذه الشبكة وكذا العديد من المواقع للأسف الشديد ضارة بكافة الفئات صغارًا وكبارًا في غالبها الأعم، ومن هذه التطبيقات تطبيقات الألعاب المختلفة بما تحمله من عنف وبما تؤدي إليه من وقوع حوادث بين الشباب عند محاكاتها قد تصل إلى الانيهار العصبي وربما الانتحار أو القتل، وما البكيمون و الحوت الأزرق، وتشارلي ...عنا ببعيد.
ومن هذه التطبيقات التي تحمل كثيرًا من المخاطر تطبيق "التوك توك "TikTok ، فلم تكتف الصين بغزو حياتنا في كافة جوانبها بداية من سجادة الصلاة والمسبحة التي جعلوها رقميَّة، ومرورًا بمطابخنا وغرف بيوتنا التي لا تخلو عن منتج صيني أو أكثر، وملابسنا التي تستر أبداننا، ووسائل احتفالاتنا بمناسبتنا من فوانيس رمضان لأطفال المسلمين، وشجر الميلاد للمسيحيين... فضلًا عن السيارات التي تنقلنا إلى أعمالنا وفي أسفارنا عامة كانت أو خاصة، وهذه المنتجات التي ليست الأجود بين مثيلاتها إلا أنها لانخفاض أسعارها أقبلنا عليها؛ فتراجعت صناعتنا المحليَّة، وكسدت سلع مستوردة من دول أجود انتاجًا لارتفاع أسعارها، وبعد احتلالهم لكل جوانب حياتنا المعيشيَّة قرروا على ما يبدو غزو عقولنا؛ بل عقول العالم كله من خلال الفضاء الإلكتروني بهذا التطبيق الذي انفردوا به دون غيرهم وهو تطبيق "التوك توك "TikTok.
فعند ظهور هذا التطبيق في البداية ظهر أطفال في فيديوهات صنعوها من خلال هذا التطبيق، يؤدون حركات ويحركون الشفاه أثناء تشغيل فيديو لممثل أو مقدم برامج أو غيرهما من المشاهير، وكأنَّ الطفل هو مَنْ يتحدث ويقوم بالحركات التمثيليَّة، وراق هذا لكثير من الناس؛ فأصبحوا يتابعون الأطفال ويعجبون بقدراتهم على محاكاة الفيديوهات التي اختاروها؛ ليقوموا بأداء حركاتهم أثناء تشغيلها، وسرعان ما راق ذلك للكبار أيضًا فزاحموا الأطفال، حتى أصبح من بينهم مشاهير يقلدهم الناس، لاسيما ممن قلت أعمالهم الفنيَّة التي يقدمونها فتحولوا هم لتقليد الآخرين، وربما اشتركت أسرة بكاملها في أداء المشاهد والأدوار التي يحملها الفيديو الذي يحاكونه، وجذب هذا الأداء كثيرين من الشباب والفتيات والرجال والنساء كمشاهدين، وظننا في البداية أنَّ هذا غاية ما ينتجه هذا التطبيق، لكن سرعان ما تكشفت جوانب أخرى لهذا التطبيق ولم يتوقف الأمر عند حد التسلية، بل أصبح وسيلة خطرة على الأخلاق والقيم والمبادئ ونشر الرذائل، ووسيلة للاستهزاء بالآخرين، ويزيد على ذلك جمع المعلومات عن المستخدمين بتفاصيلها، وما يمكن أن يترتب على ذلك من ضرر لا يخفى، وهو ما جعل الدول الكبرى تتخذ منه مواقف صارمة، وفي مقدمتها أمريكا التي حاولت شراء التطبيق من الصين بمبالغ طائلة للسيطرة عليه، ومنع أضراره بالأمريكان ومصالحهم، وربما تحويل منافعه إليهم، إلا أنَّ الصين رفضت بيعه لهم .
ولقد تابع كثير من الناس تصريحات لوزيرة الخارجيَّة البريطانيَّة ( ليزا تراس) في حملتها الانتخابيَّة لمحاولة الفوز بمنصب رئاسة الوزراء : أنها حال فوزها ستتخذ إجراءات صارمة ضد "تيك توك" الصيني ، وما ذاك إلا لإدراك هذه المجتمعات للأضرار المترتبة على هذه التطبيقات وعدم نفعها، كما انتشر منذ فترة على المواقع تصريحًا نسب لوزير التعليم الصيني ينتقد استخدام العرب لتطبيق "التيك توك" ويثني على استخدام الصين له قائلًا :إنهم في الصين يستخدمونه للتعليم والتجارة، والعرب يستخدمونه في الرقص والخلاعة، وبغض النظر عن صحة نسبة التصريح إلى المسؤول الصيني من عدمه، فالغالب أنه تصريح ملفق؛ إلا أنَّ صاحب التصريح عبَّر عن واقع لا يبتعد عن الحقيقة كثيرًا، وهو أمر مخجل يظهر الفرق بين الاستخدام المتحضر والاستخدامات المتخلفة، فالمشكلة ليست في هذا التطبيق أو غيره من التطبيقات ، ولكن في كيفيَّة الاستخدام ، فحتى شبكة الانترنت نفسها ومواقعها وبرامجها يمكن استخدامها استخدامات شديدة النفع، ويمكن استخدامها للنصب والاحتيال وإفساد الأخلاق وانهيار القيم وتفكك الأسر، وابتعاد الناس عن هدي الأديان التي ينتمون إليها وتعاليمها.
إنَّ هذا "التيك توك" وغيره من التطبيقات لم تجر على مجتمعاتنا إلا الضرر ولا نفع فيها على الإطلاق، وإن أكثر الفئات تضررًا بهذه التطبيقات هم فئة الأطفال والشباب، فالأطفال يميلون إلى اللعب واللهو ويجدون فيها بغيتهم، والشباب يستهويهم اللعب واللهو كالأطفال، ويزيدون عليهم إشباع رغباتهم التي نمت بداخلهم لمراهقتهم أو بلوغهم، ولعلَّ هذه التطبيقات قصد مصمموها ذلك بالفعل، فهم يعلمون أنَّ قوة المجتمعات في كافة جوانبها يكمن في سلامة النشء وإعداده إعدادًا جيدًا خلقيًّا وعلميًّا وجسديًّا، ويعلمون أنَّ النيل من هذا النشء وتهميش ثقافته وتدمير أخلاقه ؛ وفصله عن تعاليم دينه وقيم مجتمعه، ضرب لهذه المجتمعات في مقتل ، وبكلِّ تأكيد من يصممون هذه التطبيقات غير معنيين بسلامة مستقبل مجتمعاتنا على أحسن تقدير، فالغالب أنهم يسعدون كثيرًا بتراجعنا لنبقى على الأقل ميدانًا رائجًا لتجاراتهم الضارة في غالبها، حتى تلك اللعب التي يلهو بها أطفالنا من صناعتهم فغالبها يعلم العنف، والناطق منها يجري على ألسنتهم بذيء القول؛ ولذا فإن على الآباء والأمهات بذل جهود أكبر في رعاية أبنائهم ومحاولة إقناعهم بالبعد عن الاستخدامات الضارة لهذه المنتجات، فقد يكون ذلك أنجع من المحاولات الرقابيَّة التي يجيد الأطفال قبل الشباب التخلص منها مها كانت مهارة وصرامة الآباء والأمهات.
وكم يكون جميلًا يرضينا ويريح نفوسنا حجب التطبيقات الإلكترونيَّة الضارة ومنها "التيك توك"، وتلك المواقع التي تنشر الرذائل والإباحيَّة، والأخرى التي تحث على العنف الذي قد يفضي إلى القتل؛ فحفظ سلامة النشء بدنيًّا وعقليًّا وفكريًّا ضرورة مجتمعيَّة، لا نهضة ولا قوة ولا مستقبل بدونها.
وقد علمنا من مقاصد شرعنا ضرورة: حفظ النفس والعقل؛ وحيث إنَّ هذه التطبيقات يتنافى غالب ما فيها مع مقاصد شرعنا وقيمه وأخلاقه، وسلامة أجياله، فيكون تجنيب المجتمع لهذه المخاطر بإغلاق هذه المواقع ومنع هذه التطبيقات علامة من علامات التحضر والرقي، وليس كما يدعي دعاة التحضر والانفتاح من التطبيق الصحيح لمفهوم الحريَّات، فمجتع يوصف بالرجعي لتمسكه بدينه وأخلاقيَّاته أفضل بكثير من مجتمع يخدعونه بإطلاق لفظ الراقي عليه وهو يفقد كلَّ مقوماته الروحيَّة، والماديَّة، والعلميَّة، والثقافيَّة، والبدنيَّة.