أذاق الشاب خيري علقم الذي نفذ عملية القدس البطولية بالأمس، الاحتلال الإسرائيلي مرارة الألم والوجع الذي يعيشه شعبنا الفلسطيني على مدار سنوات طويلة إزاء ممارساته الفاشية والعنصرية، هذه العملية التي جاءت بعد يوم واحد من عملية اغتيال (9) فلسطينيين خلال اقتحام قوات الاحتلال لمدينة جنين ومخيمها الثائر، إضافة للاعتداءات المتواصلة في مناطق الضفة والقدس وحصار قطاع غزة.
بمسدسه ذات الرصاصات المعدودة، أكد علقم ابن بلدة الطور بالقدس أنه بمقتل عدد من المستوطنين وإصابة آخرين قد أوصل رسالته بالشكل الذي يفهمه الاحتلال، ويُلجم عدوانه وإرهابه المستمر، ويشكل حالة من الردع الحقيقي للتراجع عن سياسته الإجرامية، كما يجبر المجتمع الدولي على التحرك إزاء صمته الغير مبرر لوقف سياسة الفصل العنصري بحق شعبنا.
جاءت العملية ردًا على التصعيد الإسرائيلي الذي تشهده مناطق الضفة والقدس يوميًا بفعل الإجراءات التي تفرض وتعزز بقوة بعد تشكيل الحكومة اليمينية المتطرفة برئاسة نتنياهو، الذي كشف حقيقة أن إسرائيل تُقفل أبواب فرص تحقيق السلام على أرض فلسطين، السلام الذي يضمن حرية الشعب الفلسطيني واستقلاله والحق في تقرير المصير. إن هذه الإجراءات جعلت الشبان أكثر إصرارًا وثباتًا على مواصلة المقاومة الشعبية بشتى الأساليب والطرق من أجل انتزاع الحقوق المشروعة، بل وتؤكد أن شعبنا حسم خياراته في مواصلة نضاله لا أن يرفع الراية البيضاء أمام تغول الاحتلال وقطعان مستوطنيه، وهذا الحق الذي يكفله القانون الدولي.
فلم نجد علقمًا يتحول إلى بلسم إلا بفلسطين، ولم نجد الرد السريع إلا بفلسطين، فجاء هذا العلقم ليخفف من قهر الشعب الفلسطيني بالطريقة التي يفهمها العدو، ويظهر للعالم حقيقة الجحيم الذي يعيشه جراء سياسات إسرائيلية دمرت مناحي حياته. فمنذ أن أطلق الاحتلال تهديداته بوقف الحالة الثورية الممتدة في مناطق الضفة، وجه شعبنا وقواه بأن «وحدة الساحات» لم تكن شعارًا إنما تتجسد من خلال النضال على الأرض، وهذا يتضح من الاشتباكات المتواصلة بالضفة والرد من غزة، والعمليات التي تحدث في القدس والداخل المحتل، لكن الحقيقة تبقى هذه المحاولات مقيدة وأسيرة لفقدانها أهم عناصر القوة وهي الوحدة الوطنية والميدانية.
بعد تنفيذ العملية، بدأنا نسمع أصوات المواساة والإدانة ممن يدعون الإنسانية للدفاع عن أكبر دولة إرهابية بالمنطقة، فلم تكن كافية تلك الممارسات الإسرائيلية العدوانية لتيقظ العالم من غفوته، وترى حجم المجازر التي ترتكب بحق شعبنا والتي كان آخرها جنين، فلا أصوات سمعت ولا بيانات أدانت ولا ما يحزنون. إسرائيل وصلت إلى ذروتها في إجهاض مطلب تحقيق السلام العادل، من خلال تجاهل النداءات الدولية وتطبيق قوانينها العنصرية بشكل علني غير مسبوق، والتي ترمي إلى تمتين الهوية القومية اليهودية وتوسيع المشروع الاستيطاني، وإنهاء الوجود الفلسطيني.
لا شك أن حادثة جنين لن تكن الأولى أو الأخيرة، فهي تأتي في ظل تصعيد دموي ممنهج من عمليات قتل بدم بارد، واعتقالات يومية، وهدم للمنازل، وتهويد للمقدسات، وشرعنه للاعتقال الإداري، وفرض الحواجز والتقييد، وقانون الطوارئ، والقوانين العنصرية التي تخص الأسرى والأمن والتهجير والإبعاد. فالتهديدات الإسرائيلية على لسان قادة الاحتلال تؤكد أن القادم أسوأ، وأن لا أمام الفلسطيني سوى المواجهة الميدانية كي يتحقق الردع ودعم التحرك الفلسطيني دوليًا للضغط على العالم بأن يُنصف الشعب الفلسطيني، وحمايته دوليًا.
وكالعادة، يزداد التطرف بعد تشكيل كل حكومة إسرائيلية في محاولة لفرض واقع جديد على الأرض، واقتلاع فكرة المقاومة الميدانية من عقول الشباب، إلا أن التخبط الذي يصيب الاحتلال يظهر فشل منظومته الأمنية والعسكرية. فمنذ بداية العام الجاري وصل عدد الشهداء الفلسطينيين على أيدي قوات الاحتلال نحو 30 شهيدًا، وهذا ما يعكس برنامج الحكومة وسيطرة اليمين المتطرف على صناعة القرار الأمني الذي أصبح يعبر عن رفضه المجتمع بالتظاهرات ضد نتنياهو لقيام «الصهيونية الدينية» بالتحكم في أدوات الدولة.
ربما أن خطوة القيادة الفلسطينية الأخيرة باتخاذ قرار بوقف التنسيق الأمني صحيحة تحت وصف (لم يعد قائمًا) لكنها تبقى غير مبنية على رؤية وبرنامج شامل لأنها غير مُسلحة بقرارات الاجماع الوطني كون أن التهديد وجودي. فنتائج اجتماعات اللجنة التنفيذية في كل مرة تؤكد أن نشاطها السياسي والدبلوماسي بحاجة إلى انخراط وملاقاة للشعب في الميدان، فالتردد والمماطلة وتفويت الفرص السياسية لن يعود على شعبنا سوى بمزيد من الخيبة والضرر.
لم يعد أمامنا كفلسطينيين سوى خيارًا واحدًا وهو توفير الحاضنة الوطنية لحالة المقاومة الشعبية الناهضة في مناطق الضفة والقدس، والشروع في تطبيق قرارات المجلس المركزي، وتفعيل القيادة الوطنية الموحدة لمواجهة الاحتلال الفاشي العنصري الذي يسعى لإسقاط الحقوق الوطنية واستبدالها بمشاريع استعمارية تهدف لإنهاء الوجود الفلسطيني شيئًا فشيئًا، وتعزيز مقومات الصمود لشعبنا، وتطوير التحرك الدبلوماسي الدولي، والإسراع في بلورة رؤية استراتيجية نضالية بديلة تستند إلى البرنامج المرحلي لـ (م.ت.ف) باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا، وهذا كله يتحقق عبر إنجاز إعلان الجزائر والاستجابة لنداء الشعب بإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وليس الرهان على خيارات تقودها الإدارة الأمريكية التي وصفت إسرائيل بالشريكة بعد العملية.