بدأت أزمة التعديلات القضائيّة التي تريد الحكومة الإسرائيلية الحالية بقيادة بنيامين نتنياهو ووزير القضاء يريف ليفين تنفيذها تأخذ أبعاداً جديدة في تأثيراتها في "دولة" الاحتلال.
ولم تعد تداعياتها مقتصرة على الجانب السياسي والاجتماعي، بل تعدى ذلك للوصول إلى قلب الاقتصاد الإسرائيلي النابض وعجلته الأكثر حيوية، وهو صناعة التقنيات العالية (الهايتك)، التي يتفاخر بها كل الساسة والاقتصاديين الإسرائيليين، ويعتبرونها بمنزلة "المعجزة" الإسرائيلية التي تساهم في نحو 50% من حجم الصادرات الإسرائيلية، التي تشغل 10% من قوة العمل الإسرائيلية، وتدخل ما يجاوز 25% من مجموع ضريبة الدخل في "إسرائيل"، والأهمّ تجلب استثمارات خارجية إلى السوق الإسرائيلية بقرابة 27 مليار دولار سنوياً.
ينبع خوف رجال صناعة الهايتك في "إسرائيل" من التعديلات القضائية من أمرين رئيسيين:
الأول: تخوف اقتصادي مباشر على صناعة الهايتك الإسرائيلية التي ازدهرت خلال العقود الثلاث الأخيرة، كما عبر عنه الكتاب الذي أرسلته مجموعة واسعة من أصحاب شركات الهايتك في "إسرائيل" لنتنياهو، ليحذروه من مخاطر التعديلات القضائية على الاقتصاد الإسرائيلي، وخصوصاً سوق الهايتك، إذ إنَّ الاستقرار القضائي بالنسبة إلى المستثمرين الأجانب شرط أساسي لاستمرار استثماراتهم في أي دولة، وغياب ذلك معناه هروب تلك الاستثمارات إلى دول أخرى.
إنَّ انعدام الثقة بالمنظومة القضائية في "إسرائيل"، وما ينتج من ذلك من ضرب للقيم الديمقراطية الإسرائيلية ومساس بالحقوق الأساسية لأيّ إنسان، مهما كان، سيردع المستثمرين الخارجيين، وغالبيتهم من أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، عن الاستمرار باستثماراتهم في "إسرائيل"، الأمر الذي سيوقف نمو صناعة الهايتك الإسرائيلية المذهلة وازدهارها.
أضِف إلى ما سبق التأثير الناتج من تشابك قطاع الهايتك في "إسرائيل" مع العديد من القطاعات الصناعية والخدماتية الأخرى، وأهمها قطاع البنوك، الذي لم يتأخر في إبداء مخاوفه من سحب الأموال ونقلها إلى الخارج، والمساس بتصنيف "إسرائيل" الائتماني، وخصوصاً بعد إعلان بعض الشركات والصناديق الاستثمارية سحب أرصدتها من "إسرائيل" وتحويل حساباتها إلى الخارج.
وقد تعالت أصوات مهمة من كبار مسؤولي البنوك الإسرائيلية، إذ نصح الرئيس التنفيذي لبنك "ديسكونت"، أوري ليفين، نتنياهو قائلاً: "من المستحيل تجاهل جميع الأرقام الاقتصادية التي تعبر عن الكثير من القلق بشأن التحركات، وبالتالي عليك التوقف فوراً ودفع التغييرات بحذر وباتفاق واسع النطاق"، الأمر الذي أكّده مراقب بنك "إسرائيل" المركزي، أمير يارون، لرئيس الوزراء نتنياهو في لقاء خاص جمعهما لمناقشة تأثيرات التعديلات القضائية في الاقتصاد الإسرائيلي، وخصوصاً مع اقتراب إقرار الموازنة العامة للحكومة.
ومن الجدير بالذكر أنَّ ما قدَّمته المستشارة القضائية للحكومة الإسرائيلية، جالي ميارا، من رأي قانوني على مسودة قانون أساس القضاء الجديد يعزز التخوفات لدى رجال صناعة الهايتك في "إسرائيل"، بل يعتبر إقراراً رسمياً من مستوى قانوني رسمي بمصداقية تخوفاتهم، وخصوصاً أنَّ المستشارة جالي تكلمت بوضوح عن أن تلك التعديلات ستركز قوة جميع السلطات بيد السلطة التنفيذية، الأمر الذي سينهي منظومة الكوابح والتوازن بين السلطات الثلاث، وسيضرب من الجذور فكرة الفصل بين السلطات الثلاث، واستقلالية القضاء، وحماية حقوق الفرد، وسيادة القانون.
الثاني: أكثر من 90% من صناعة الهايتك والمال تحت سيطرة الطبقة الأشكنازية "اليهود الغربيين" الليبرالية، فمنذ تحول "إسرائيل" من الاقتصاد الاشتراكي المبني على سيطرة الدولة على أدوات الإنتاج عبر اتحاد العمال "الهيستدروت"، ومنظومة الكيبوتسات "الملكيات الجماعية"، والشركات الحكومية، إلى الاقتصاد الرأسمالي المبني على الخصخصة، والملكية الخاصة، وتغول الشركات المتعددة الجنسيات على الاقتصاد الإسرائيلي، مع انحسار دور الدولة في التحكّم في الاقتصاد الإسرائيلي تحت عنوان اقتصاد السوق الحرة. واكب كل ذلك إعادة تموضع اجتماعي اقتصادي جديد للطبقة الأشكنازية العلمانية الليبرالية داخل المجتمع الإسرائيلي.
وفي الوقت الذي كانت تلك الطبقة الأشكنازية القديمة تسيطر على "الجيش" والهستدروت والكيبوتسات، وتتحالف مع التيار العمالي في السياسة الممثل بحزب العمل، بدأت الطبقة الأشكنازية تستفيد من امتيازاتها التعليمية والاقتصادية والسياسية المتاحة لها منذ قيام "إسرائيل" دون غيرها في السعي للسيطرة على أدوات الإنتاج في الاقتصاد الرأسمالي الجديد.
وقد بدا الشباب الأشكنازي غير مولع بالخدمة في لواء المظليين في الجيش، كما كان معتاداً، بل باتت وحدة 8200 في الاستخبارات العسكرية "أمان" هدفه، والوحدات السايبرية الأخرى التي تهيئه لدخول سوق الهايتك.
لم يعد حزب العمل حليفاً حقيقياً لتلك الطبقة الأشكنازية، بل بدأت تنحو صوب التحالف مع اليمين الإسرائيلي الرأسمالي على أساس اقتصادي، وخصوصاً مع فشل نظرية شمعون بيرتس (الشرق الأوسط الجديد) بأن "السلام" مع الفلسطينيين سيجلب الازدهار الاقتصادي لـ"إسرائيل"، فكل من نتنياهو وأرييل شارون أثبتا للطبقة الأشكنازية أن لا رابط بين عملية التسوية والازدهار الاقتصادي الإسرائيلي.
وباتت الطبقة الأشكنازية غير مكترثة بالتوجه اليميني السياسي لنتنياهو، بل ما يهمها هو تعزيز وجوده السياسي لتعزيز المزيد من الرأسمالية المتوحشة في الاقتصاد الإسرائيلي، لكونها الأكثر استفادة من ذلك كطبقة اجتماعية اقتصادية تعتبر الأقوى بين الطبقات الأخرى في المجتمع الإسرائيلي.
لكن مع تصاعد قوة اليمين الديني داخل حكومات نتنياهو المتعاقبة، وخصوصاً الحريديم، ومحاولة اليمين الديني كقوة سياسية مهمة فرض سيطرته على الأنماط المجتمعية داخل "إسرائيل" (دولة الهالاخاه)، تم تقليل وجودهم في التوجه اليميني الاقتصادي، لكون اليمين الديني ما زال يبني علاقاته الاقتصادية على النظام التعاوني داخل طبقته.
أما اللحظة الحقيقية التي أجبرت الطبقة الأشكنازية الليبرالية على التحرك، فهي إدراكها أن هناك فرصة حقيقية أمام اليمين الديني حتى يستغل مصلحة نتنياهو للهروب من قضايا فساده، ويغير نظام الحكم في "إسرائيل"، الذي لن ينتهي بإضعاف المحكمة العليا.
ولكن من المؤكّد أنه سينسحب على المنظومة الاقتصادية والمجتمعية. ومن أهم تداعياته تأكّل قوة الطبقة الأشكنازية الليبرالية العلمانية في "إسرائيل" ونفوذها. لذلك، أرسلت الطبقة الأشكنازية الليبرالية رسائل تحذيرية إلى نتنياهو تحذره من تزعزع تحالفها معه، الأمر الذي يمكن أن توضحه نتائج استطلاع للرأي أجرته القناة 12 الإسرائيلية بعد شهر واحد من عمر حكومة نتنياهو السادسة، أظهر أنَّ 54% يخشون من تضرر الاقتصاد الإسرائيلي من الإصلاحات القضائية، ولكن الأهم أن 25% من أنصار نتنياهو يحملون المخاوف.
لذلك، يحاول نتنياهو أن يهدئ من مخاوف تلك الطبقة الأشكنازية، لما يدركه من قدراتها وإمكاناتها المتعددة والشبيهة بالدولة العميقة، ليس على مستوى "إسرائيل" فقطـ، بل على مستوى الحركة الصهيونية وحركة المال العالمية أيضاً.