بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لم تكن شهادته في الأسر مستغربة أو مستبعدة، وإن كانت صادمة ومؤلمة، ومحزنة ومقلقة، فقد استشهد غريباً أسيراً مصفداً بالأغلال ومقيداً بالسلاسل، وقضى بعيداً محروماً معذباً مريضاً متألماً، إلا أنها لم تكن مفاجئة أو غير متوقعة، فكل أسيرٍ في سجون العدو الإسرائيلي هو مشروع شهيدٍ وإن تأخرت شهادته، أو تعددت أشكالها وتباينت وسائلها، وسواء وقعت خلال فترة الأسر أو بعد التحرير، فالشهادة مآلهم والموت البطيء مصيرهم، والاحتلال يترقبهم وسلطاته ترصدهم، وسجانه يعذبهم، وأطباؤه يعجلون في شهادتهم، ويتعمدون قتلهم، ويساهمون في عذابهم، ويبالغون في معاناتهم.
لن يكون الأسير الشهيد أحمد أبو علي آخر الأسرى الشهداء، كما أنه ليس أولهم، فقد سبقه إلى الشهادة في الأسر وخلف القضبان بعيداً عن الأهل والعائلات مئات الأسرى، الذين قضوا في السجون والمعتقلات نتيجة الإهمال الطبي وغياب العلاج ونقص الدواء، والقتل البطيء، والإعدام المتعمد، والتعذيب المنهجي الذي يفضي إلى الموت، وسجلات الأسرى تشهد على شهادة المئات منهم في سجونهم، أو بعد أشهرٍ قليلة من نيلهم حريتهم، ومن لم تكن الشهادة خاتمته والموت في السجون منيته، فإن الأمراض المستعصية تلازمه، والمعاناة الدائمة لا تنفك عنه ولا تتركه، وما زال آلاف الأسرى يشكون من الأمراض التي لازمتهم في سجونهم، أو تلك التي سببتها ظروف اعتقالهم.
استشهاد الأسير أحمد أبو علي لم يكن مفاجئاً لشعبنا الذي اعتاد على تلقي أخبارٍ مؤلمةٍ كهذه، لكن الجديد المؤكد أن شهادته هي نتيجة طبيعية ومباشرة لتعليمات الإرهابي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير، الذي صب جام غضبه على الأسرى والمعتقلين منذ اليوم الأول لتسلمه مهامه الرسمية في وزارة الأمن القومي الصهيونية، فهو المسؤول عن شهادته، وهو وحكومته اليمينية الذين نفذوا عملية الإعدام وإن بدت نتيجة المرض، فقد أصدر أوامره بالتشدد في التعامل مع الأسرى والمعتقلين وتعذيبهم، وحرمانهم من الراحة في سجونهم أبداً، والاستمرار في تعذيبهم وقمعهم على مدى الساعة، وتنفيذ سياسات العزل الانفرادي والنقل القسري ضد مئات الأسرى، وبدأت مصلحة السجون استجابةً إلى تعليماته العنصرية بتخصيص زنازين عزلٍ للأسيرات الفلسطينيات، علماً أن الكثير منهن يعانين من أمراضٍ ويشتكين من ظروف الاعتقال السيئة.
نذكر قبل أيامٍ قليلة أن بن غفير قد طلب من إدارة مصلحة السجون الخاضعة لسلطاته، ألا تصغي السمع لشكوى الأسرى، وألا تضعف أمام أنينهم، أو تتراجع بسبب ادعائهم المرض أو إحساسهم بالألم، وألا تقوم بعرضهم على الأطباء أو عيادات الأسرى، وألا تنقلهم إلى المستشفيات للعلاج أو إجراء العمليات الجراحية العاجلة والملحة، وألا تستجيب إلى دعوات الصليب الأحمر ومؤسسات حقوق الإنسان، التي تطالبهم بتحسين معاملة الأسرى والتخفيف عنهم، متهماً الأسرى بالكذب والخداع، ومؤكداً أنهم لا يستحقون الرعاية والعلاج، ولا اللين أو الرفق في المعاملة، بل يجب التعامل معهم بكل شدةٍ وقسوةٍ، حتى يحين الوقت لتشريع قانون الإعدام وتنفيذه بحقهم.
هذه القسوة في المعاملة والشدة في إدارة السجون لا تراعي حالة الأسرى المرضى وظروفهم الصعبة، وأنهم لا يستطيعون تحمل سياسة "القمع" التي تتعمد إدارة السجون القيام بها دائماً وبصورة مفاجئة، حيث تخرج الأسرى جميعاً، مرضى وأصحاء ومسنين وأطفال، إلى الباحات العامة، في ساعاتٍ متأخرة من الليل وفي اجواء من البرد القارص والطقس العاصف.
يجبر السجانون خلال عمليات القمع الوحشية، الأسرى جميعاً على الجلوس في وضعياتٍ مؤذيةٍ ومؤلمةٍ لساعاتٍ طويلة، وتحرمهم خلالها من قضاء حاجتهم أو تغيير جلستهم، في الوقت الذي يوجد فيه أسرى مرضى بالقلب والروماتيزم والسرطان وضيق الصدر وصعوبة التنفس، فضلاً عن أمراض الكلى والقرحة والنزلات المعوية وغيرها، مما يزيد من سوء حالتهم الصحية، وضعف مناعتهم وتراجع قدرتهم على تحمل آلام المرض والأوجاع المترتبة عن الوقوف الطويل، والجلسات الصعبة، والبرد الشديد، فضلاً عن قيام الجنود بضربهم بالهراوات والعصي الغليظة، ورشهم بالغاز الخانق المدمع والحارق للعيون.
لا يبدو على إيتمار بن غفير القلق أو الأسى على وفاة الأسير أحمد أبو علي، ولا يعنيه أبداً أنه أبٌ لتسعة أطفال، وأنه قضى في السجون بعيداً عنهم وعن أسرته وعائلته عشر سنواتٍ، عانى خلالها من صنوف التعذيب وسوء المعاملة، وكابد الظروف السيئة والسياسات الحاقدة، ولن يكترث كثيراً بحالة الحداد العامة التي أعلن عنها الأسرى والمعتقلون في مختلف السجون لمدة ثلاثة أيامٍ، بل لعله فرحٌ بما أصابهم، سعيدٌ بما لحق بهم، ومبتهجٌ بحالة الحزن والأسى التي طغت عليهم، ولن يتوقف عن التفكير في الإساءة إليهم والتضييق عليهم، إلا إذا أصابته وحكومته من الشعب قارعةٌ على رأسه، أو لطمةٌ على وجهه، توقفه عن غيه، وتوقظه من سكرته، وتعيده إلى وعيه، رغم أنه ولا وعي عنده ولا رشد، ولا عقل عنده ولا قلب.
رحم الله الأسير الشهيد أحمد أبو علي، وتغمده بواسع رحمته، وأسكنه الجنة وخصه بالفردوس الأعلى مع الأنبياء والصديقين والشهداء، وعوضه عما لحق به في سجنه وأصابه في خاتمة حياته خيراً، وأعلى مراتبه ورفع درجاته، وارتقى به إلى عليين، وصَبَّرَ أهله وعَظَّمَ أجرهم، وجعل أولاده من بعده خير خلفٍ له، يبرونه ويحفظونه، ويسيرون على دربه ويقلدونه، ويحفظون عهده ويصونون أمانته.
بيروت في 12/2/2023
moustafa.leddawi@gmail.com