يتقاطع شهر رمضان المبارك هذا العام كما العامين الماضيين مع الأعياد الدينية اليهودية، والتي يحاول خلالها المستوطنون الدينيون الصهاينة تعزيز اقتحاماتهم للمسجد الأقصى، وفرض التقسيم المكاني والزماني داخل باحات المسجد الأقصى الشريف، بوتيرة عالية، وتتعالى الدعوات من جمعيات إعادة بناء الهيكل الصهيونية إلى زيادة التحشيد للاقتحامات كمّاً ونوعاً في هذا العام، والحديث عن مخطط لإدخال الشمعدان اليهودي للاحتفال بعيد الأنوار (الحانوكا) داخل باحات المسجد الأقصى.
رغم أن دعوات الصهيونية الدينية وذراعها التهويدية المتمثلة في جمعيات بناء الهيكل ليست جديدة، وتتكرر في كل عام، لكن في هذا العام، ثمة عوامل عديدة تزيد من حالة الاحتقان والتوتر في شهر رمضان القادم، والتي دعت الكثير من المحللين السياسيين والأمنيين داخل "إسرائيل" وخارجها إلى التحذير من انفجار الأوضاع في مدينة القدس في شهر رمضان، ومن أهم تلك العوامل:
أولاً، الاندفاعة العالية والثقة الكبيرة للصهيونية الدينية التي حصلت عليها إثر نجاحها في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، والتي جاءت بكل من بتسلال سيموتريتش وإيتمار بن غفير وزيرين في الحكومة وفي الكابينت الإسرائيلي، وبالتالي باتت تشعر أن هناك غطاءً سياسياً قوياً للصهيونية الدينية لمزيد من التهويد في المسجد الأقصى والقدس عامة، خاصة أن قضية تهويد القدس باتت قضية إجماع صهيوني داخلي، والأهم أنها كانت جزءاً أساسياً في البرنامج الانتخابي لكتلة الصهيونية الدينية بقيادة سيموتريتش وبن غفير، وانعكست على شروطهم لدخول الائتلاف الحكومي بقيادة بنيامين نتنياهو.
ثانياً، تولي إيتمار بن غفير وزارة الأمن القومي المسؤولة عن الشرطة الإسرائيلية ووحدات حرس الحدود، وبذلك يصبح الأمن داخل مدينة القدس تحت سلطة بن غفير، الرجل الذي ارتقى في سلم السياسة الإسرائيلية من خلال دعواته الغوغائية إلى فرض السيادة الإسرائيلية على القدس والمسجد الأقصى، الأمر الذي يزيل كل العقبات أمام الصهيونية الدينية وأذرعها التهويدية الأمنية واللوجستية لمزيد من التهويد والاقتحامات.
نتذكر جيداً محاولات بن غفير إشعال فتيل معركة "سيف القدس" من خلال نقل مكتبه إلى حي الشيخ جراح، والدعوة إلى مسيرات صهيونية بالأعلام الإسرائيلية في اتجاه باب العمود، وغيرها من الاقتحامات الاستفزازية لباحات المسجد الأقصى المبارك، الأمر الذي جعل مفتش عام الشرطة، كوبي شبطاي، يتهمه بأنه المسؤول عن إشعال فتيل معركة "سيف القدس" عام 2021، وحتى بعد توليه منصب وزارة الأمن القومي كان أول عمل له اقتحام المسجد الأقصى بالطريقة الإعلامية الاستفزازية كتأكيد على تطبيقه برنامجه الانتخابي.
ثالثاً، ازدياد وتيرة المقاومة في الضفة الغربية والقدس، وارتفاع معدلات العمليات الفدائية الفلسطينية، وتأكيد غزة على قضية وحدة الساحات، ووحدة المواجهة الفلسطينية في حال كسر "إسرائيل" للخطوط الحمر في القدس والضفة الغربية.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن ارتفاع أعداد العمليات الفدائية في مدينة القدس، يعزز من حالة التوتر داخل المدينة من جهة، ويؤكد على عدم نجاعة الحلول الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية من جهة أخرى، وبالتالي أصبحت مدينة القدس بشكل خاص والضفة الغربية بشكل عام كبرميل البارود الذي ينتظر شرارة الانفجار.
رابعاً، انتهاج حكومة تحالف نتنياهو- بن غفير- سيموتريتش نظرية (ما لم يحل بالقوة يحل بمزيد من القوة) ضد الغضب الفلسطيني من سياسات "دولة" الاحتلال، متناسية أن لكل فعل ردة فعل مساوية له بالمقدار ومضادة له في الاتجاه، فإن دعوة بن غفير إلى فرض إغلاق شامل على فلسطينيي شرق القدس، والدعوة إلى عملية "السور الواقي 2" في القدس، من خلال تنفيذ سلة من العقوبات القانونية ضد الوجود الفلسطيني هناك، ليس مجرد خزعبلات يلقيها بن غفير بل ستتحوّل إلى ضغوط حقيقية في النقاش الأمني السياسي والعسكري داخل الكابينت، حتى ولو لم يمنح كل من نتنياهو ووزير الحرب يوؤاف غالنت موافقتهما على الاقتراح، واستغربا طريقة عرضه بهذه الطريقة الطفولية.
لكن هذا الأمر سيزيد من تطرف الآراء داخل الكابينت الإسرائيلي وداخل المؤسسة العسكرية والأمنية، كون ضعف قدرة اللاعبين الرئيسيين داخل الكابينت على مواجهة الصهيونية الدينية، من السهل جداً أن يترجم لهجمة كارثية غير مسبوقة على الفلسطينيين، ما يتطلب منهم أن يكونوا حاضرين بقوة لصدّها والتعامل معها.
وبالمناسبة، القوة المستخدمة من قبل "إسرائيل" في الصراع باتت أكثر شراسة، وبالتالي فإن مزيداً من القوة سيكون أكثر دموية وجذرية، لذا يجب على الكل الفلسطيني تدعيم قوته لصدّ الهجمة الإسرائيلية التي، باعتقادنا، لن تتأخر كثيراً، وفي الغالب، ستكون هجمات غير مدروسة ونابعة من حسابات أيديولوجية صهيونية وانتخابية سياسية.
خامساً، الوضع الداخلي الإسرائيلي، وازدياد الصراع اليهودي- اليهودي على هوية "إسرائيل" ونظامها الحاكم، على إثر خطة التعديلات القضائية، التي يسعى لتطبيقها وزير القضاء، يريف ليفين، بدعم من نتنياهو، والتي تسببت في إشعال حالة من التوتر الشديد داخل المجتمع الإسرائيلي، وخروج تظاهرات يوم السبت ضد الحكومة الإسرائيلية على مدار 6 أسابيع متتالية، ووصل عدد المتظاهرين إلى ما يفوق 100 ألف متظاهر، وانضمام كثير من الفئات المجتمعية والاقتصادية والعسكرية والأمنية إلى تلك التظاهرات والاعتراضات، الأمر الذي يجعل من فكرة تصدير الأزمة اليهودية الداخلية إلى الخارج الفلسطيني أحد السيناريوهات الممكنة للخروج من الأزمة اليهودية الداخلية، أو حتى تبريدها مؤقتاً.
وبناءً على ما سبق، يمكن قراءة المخاوف الأميركية من تصاعد الأوضاع وانزلاقها لمواجهة جديدة، الأمر الذي عبّرت عنه تصريحات رئيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية، بيل بيرنز، بشأن احتمال اندلاع انتفاضة جديدة، وأن الوضع الحالي يشبه الأحداث التي سبقت الانتفاضة الثانية.
ولكن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تدرك أن أي مواجهة عسكرية مع الفلسطينيين عنوانها القدس والمسجد الأقصى، هي ورقة قوة بيد الفلسطيني، توحّد جبهاته وتمنحه الزخم الشعبي والجماهيري لهذه المعركة، ناهيك بأن "إسرائيل" لن تكون قادرة على تحديد إلى أي مدى يمكن أن تتدحرج الأمور، خاصة أن الضفة الغربية حاضرة بقوة في معادلة الاشتباك في المواجهة المقبلة.
وبالتالي، هل سيستطيع العقل الأمني والعسكري الإسرائيلي أن يشكّل كابحاً أمام تطرف مستواه السياسي من جهة وتطرف مجتمعه من جهة أخرى، أم أن المؤسسة العسكرية ستتأثر بضغوطات المستوى السياسي، وستسعى لتنفيذ توجهاته السياسية؟ ولكن، في كل الظروف، نحن على موعد مع شهر رمضان ساخن في مدينة القدس، مفتوح على الخيارات كافة.