بين النصف الثاني من القرن الخامس عشر، وحتى النصف الثاني من القرن السابع عشر، أضاف العديد من الرسامين الكلاسيكيين ذبابات إلى أعمالهم الفنية. وحرص عدد منهم على رسمها بشكل مقنع لدرجة أنها بدت حقيقية.
حاول أندريه تشاستل، المؤرخ الفني الفرنسي المغرم بإيطاليا، تتبع تاريخ الذباب في الرسم. وفي البداية، قام بتقديم الذبابة على أنها تحفة غريبة وتأكيد على مهارة الفنان وقناعاته. وتم اعتبارها مزحة طريفة من الرسامين المخادعين، بالرغم من أنها تضمنت معاني أكثر تعقيدا من مجرد شكل غريب على سطح رسومات راقية في غاية الجدية.
نشأة رمزية الذبابة في اللوحات الفنية
الذبابة حشرة ليست محبوبة بطبيعة الحال، لكنها في اللوحات الفنية يمكنها أن تتحول من مجرد مصدر إزعاج مثير للاشمئزاز إلى رمز فني عميق، ودلالة تشير إلى الموت وقيمة حياة الإنسان.
ولأن فكر عصر النهضة كان يميل إلى مزج حكايات القرون الوسطى الخرافية عن الطبيعة بأفكار حول الدين، كان يُنظر إلى الذباب على أنه يمثل قوة خارقة للطبيعة، ترتبط في الغالب بالشر والفساد، لأن تلك الحشرات بدا وكأنها تولد تلقائيا من الفاكهة المتعفنة والمواد العضوية التالفة.
وفي سفر الخروج في الكتاب المقدس، حشد الله أسرابا من الذباب كعقاب، فكانت نذيرا بأمور أسوأ، مثل الوباء والموت.
وتصاعد استخدام الفن الكلاسيكي لرمزية الذبابة التي تتصدر المشهد في الرسومات الزيتية عندما ولدت حركة (La burla di Giotto)، والتي تعني "مزحة جيوتو"، نسبة للفنان الفلورنسي جيوتو دي بوندوني من القرن الرابع عشر الذي يُعد العبقري الذي أعاد إحياء الطبيعة في الرسم الأوروبي، وحرر الفن.
وبدأت الحركة تحديدا عندما أراد الفنان الإيطالي تمثيل الزوال وعدم استقرار الحياة، والأفراح الأرضية السطحية التي لا تضاهي قيمتها أي شيء.
ومنذ تلك الفترة، حمل الذباب معنى رمزيا في تاريخ الفن، ففي اللوحات التي رسمها مختلف الفنانين في عصر النهضة بأوروبا، كان رمز الذبابة يشير إلى زوال الحياة البشرية، وأن الحياة لا تساوي أكثر من حياة حشرة دقيقة وتافهة، وهو الرمز الفني الذي تطور لاحقا وبات يُسمّى (Musca depicta) أو "الذبابة المرسومة" باللاتينية.
ضآلة الحياة
ومن أبرز الأمثلة على هذه النظرية لوحة صغيرة تُعد الأشهر في تجسيد رمزية ضآلة الحياة الإنسانية، وهي اللوحة التي تُعرف اليوم باسم "صورة سيدة من عائلة هوفر"، تم رسمها حوالي عام 1470 بواسطة فنان مجهول من المدرسة الألمانية (Swabian)، وهي تُعرض اليوم في المعرض الوطني بالعاصمة البريطانية لندن.
تظهر في اللوحة سيدة بغطاء رأس أبيض تقف في جانب منه ذبابة صغيرة، وسلط الفنان الضوء على وجودها الداكن على خلفية بيضاء بهذا الشكل في محاولة منه للتذكير بأن حياة البشر، مثل الذبابة تمامًا، تافهة ومؤقتة.
كذلك تسنّى للرسامين تضمين ذبابة في لوحاتهم للفت الانتباه إلى أنفسهم بشكل ما، وإظهار حيلهم المخادعة للمتفرجين. فكانت تُرسم الذبابة بطريقة حقيقية جدا، حتى أنها قد تغري المتفرّج بأن يحاول أن يضرب الذبابة بعيدا عن اللوحة لكي يتمكن من التركيز على التذوق الفني للعمل.
يروي الرسام الإيطالي من القرن السادس عشر جورجيو فاساري، كاتب سيرة فناني عصر النهضة الإيطاليين، قصة عن خداع الرسام جيوتو لمعلمه تشيمابو بإضافة ذبابة واقعية إلى إحدى لوحاته.
بدوره، رسم الفنان الهولندي بيتروس كريستوس لوحة "رجل كارثوسي"، وهي إحدى أشهر اللوحات الفنية التي تظهر فيها ذبابة كذلك، وتوجد الآن في متحف متروبوليتان في نيويورك.
اللوحة تصور راهبا ملتحيا، ومع ذلك تشير الذبابة التي تطفو على البرواز الوهمي أمامه إلى أن الأمور في واقعها ليست مثلما تبدو عليه الصورة، وأن هذا العالم الذي يراه الرائي "مجرد وهم".
وبعدها بقرون، قام الرسام والفنان التشكيلي الإسباني سلفادور دالي، بتضمين ذبابة على وجه الساعة في لوحته الشهيرة "مثابرة الذاكرة" عام 1931، التي تُعرض الآن في متحف الفن الحديث في نيويورك. كما استخدم جيشًا من النمل للدلالة على اضمحلال الوقت وهشاشته، وعدم موثوقية الحياة.
وتظل هذه الرمزية أحد أبرز الابتكارات الفنية التي تنقل اعترافا من الإنسان أن الحياة لا تتجاوز مجرد "ذبابة" ضئيلة.