طفت خلال الآونة الأخيرة على السطح، ظاهرة نشر المواطنين لتفاصيل حياتهم اليومية على مواقع التواصل الاجتماعي، فنجد الكثير من القصص على هذه المواقع، منها ما يعبر عن حالة حزن لفقدان عزيز، أو لخسران شيء ما، وأخرى لفرح بإنجاز شيء جديد، أو الدخول في مرحلة جديدة، وغيرها التي لا يكون لها أي هدف سوى الظهور.
هذه الظاهرة الآخذة بالتوسع بين المواطنين، إلا أنها أصبحت واضحة لدى أصحاب المحال التجارية والمنشآت السياحية المختلفة، وبعض المهن الأخرى، التي أظهرت منافسة شديدة، أدت للوصول إلى التراشق بين المتنافسين وكيل الاتهامات، الأمر الذي يرى فيه متابعون ومختصون أنه يشكل خطرًا رغم بعض الإنجازات التي يحققها.
بدايات الظهور
مدير حملة فكر بغيرك كامل الهيقي عاد بنا إلى بداية ظهور هذا الأمر، مبينًا أنها كانت خلال فترة الحجر الصحي الناتج عن انتشار جائحة كورونا.
يبرر الهيقي هذه البداية بأن المواطنين كانوا لا يجدون أماكن يفرغون عن أنفسهم فيها سوى مواقع التواصل الاجتماعي، فنجدهم يصورون تفاصيل الحياة اليومية خلال الحجر الصحي، وينشرونه على مواقع التواصل الاجتماعي، وبدا كأن بعض المستخدمين يقلدون الآخرين.
ووفق ما يشير فإن الأمر استمر، مع استمرار تمسك المواطنين بمواقع التواصل الاجتماعي لإنجاز مهامهم، بالإضافة إلى الفراغ الكبير الناتج عن عدم توفر فرص للعمل، ليصبح الأمر كالتقليد الأعمى، ما بين الجيران، والأقارب، والأصدقاء، وإنما بدأ يترسخ لدى الكبار والصغار.
يضرب هنا الهيقي مثلًا أن بعض العائلات تضطر لتستدين، أو تستلف من أجل الذهاب إلى أحد المطاعم والالتقاط الصورِ فيها؛ لتقارن نفسها بعائلة ما قامت بفعل مشابه، ولتظهر أنها باستطاعتها الذهاب لهذا المطعم أو لمطعم أرقى على سبيل المثال.
سلاح ذو حدين
يشير الهيقي إلى أن هذا الأمر يعد سلاحا ذا حدين، وله جانب إيجابي، منها أن المحال التجارية وجدتها أسرع طريقة لتوصيل إعلاناتها للجمهور من مختلف الفئات، وجذب الزبون سواء بشكل دائم، أو مؤقت، أو لمرة واحدة.
أما الجانب السلبي لهذا الأمر كما يقول: "إن من يقوم بهذا الشأن يكشف عورة بيته، بالإضافة إلى ذلك فهناك مضار شخصية لهذا الأمر، حيث يساعد الآخرين على تحليل هذا الأمر وفق أهوائهم، أو يقوم بعضهم بالحسد".
ويكمل في الجانب السلبي: "الكثير استغل هذا الأمر بشكل خاطئ، وبدأ بالتسول من أجل الحصول على بعض المساعدات، من خلال إظهار كل منزله وزوجته وأبنائه، وأنه غير قادر على توفير الاحتياجات لهم، وآخرون يريدون الحصول على علاج أو ما إلى ذلك يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي لتوصيل مناشدتهم".
هذه السلبيات الجسام كما يراها الهيقي، فإنها تنتج جيلًا همه الوحيد الظهور بأي صورة على وسائل التواصل الاجتماعي، يظهر خلالها أن حياته متطورة وهو برفاهية كبيرة، وإن كانت في الواقع غير ذلك".
إنقاص من الذات وذهاب للحياء
من جانبه يتحدث الاختصاصي النفسي والاجتماعي زهير ملاخة عن أن هذه الظاهرة تنم عن فهم للأمور بشكل خاطئ، وأهم ملامح هذا الفهم الخاطئ، هي عدم تقديرهم لذاتهم، وعدم احتفاظهم بخصوصيتهم وقدسيتهم البيتية وقدسية الأبناء والزوجة.
يقول: "هم يتجهون للاستعراض ظنًا أنهم يكسبون شيئا من الشهرة، أو يشعرون بشيء من السعادة أو المتعة، وهذا ما يعني أن جوانب التقدير غير موجودة، ويحل محلها التفكير البسيط، الذي فيه شيء من الاستعراض، ومحاولة جلب التفات وأنظار الآخرين؛ لتعويض الجوانب الضعيفة لشخصيته، من خلال الشكليات وإظهار أمور منزله، أو أولاده، أو تفاصيل حياته".
أما الجانب الثاني فيكمن وفق ما يشير ملاخة في ذهاب القيم وأهمها قيمة الحياء، والقيم الأخلاقية؛ الأمر الذي يدفعه للتعدي على خصوصيات الذات والعائلة، واختراق مروءته.
يردف حديثه "البعض الآخر يستخدم الخصوصية لرفع عدد المتابعين من ناحية التفكير الربحي بهذا الموضوع، وبالتالي جعل خصوصيته كتابا مفتوحا للجميع؛ ظنا أنه يستطيع تحقيق عوائد مادية بهذا الجانب، هذا الأمر يعكس صورة من الشفقة تجاه من يمارسون هذا الشيء".
هذه الجوانب جميعها تدفع القائم بها ليكون عرضة للنقد، ولملاحظات الآخرين، كما يبين المختص ملاخة، مرجعًا ذلك إلى أن نقاط ضعفه وأطباعه وصفاته الجيدة والسيئة، تكون معروفة للجميع.
يشبه ملاخة القائمين بهذه التصرفات أنهم كالكتاب المفتوح للآخرين، لا يوجد فيه شيء من الغموض، أو ذات أهمية، تجعل الآخرين يعملون له اعتبارا ووزنا وقيمة.
نصائح من ذهب
يكمل المختص ملاخة حديثه في هذا الإطار مقدمًا نصيحة مهمة، مشددًا على أن الإنسان الواعي يحدد شكل علاقاته، ويحتفظ بهويته الخاصة به، وهويته الاجتماعية الخاصة بعائلته وأصدقائه، ويفصل في دوائر العلاقات من خلال أمور لا بد أن يحتفظ بها لنفسه، ويجعل لنفسه قيمة وقدرا؛ كون الناس لا يعرفون عنه شيئا من ناحية نقاط القوة والضعف.
هذه النصائح أكملها مفتي المعاهد الأزهرية في قطاع غزة، الشيخ سميح حجاج، بأن يستعين الجميع على قضاء حوائجهم بالسر والكتمان.
يقول الشيخ حجاج "لو كان لديك فرح، لا تُفرح به إلا من أحببت، وكذلك لو كان عندك حزن لا يحزن به إلا من حولك".
يبرر ذلك أن الله لو أكرم أحدهم بنعمة الفرح، فإن الحساد كثيرون، مكملًا "نحن لدينا في قطاع غزة، وفلسطين، نعيش حالة من الفقر وقلة ذات اليد، والعوز".
يكمل هنا "عندما تُرسل تفاصيل حياتك على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، تخاف من شر الحاسد مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الحسد ليدخل الرجل القبر، ويدخل الجمل القدر).
ودعا لأخذ الاحتياطات، وعدم الحديث عن الصحة الجميلة أمام إنسان مريض، أو الغنى والثراء أمام إنسان فقير، موضحًا أن ذلك يورث الآخرين الحسرة والحسد والنقم عليه.