تجلسُ المعلمةُ أسماء أمام طالباتها بحزنٍ عميقٍ، فعيناها تراقب حركتهنَّ بدقة متناهية، وقلبها يشتعل نارًا، وأفكارها تسبح في بحر لجي مليء بالتخيلات المُرعبة، ثم تضرب كفًا بكفٍ، ولسان حالها يقول: "كيف سنواصل مسيرة التعليم وسط الدمار والقصف وقصص الشهداء والجرحى؟!"، فجأة داهم أفكارها صوتُ طالبةٍ رقيقٍ، فقالت بصوت يملأه الحب والفرح: "أنا بحبك يا مس!، أتمنى أن نستمر باللعب والمرح!، فلا يوجد في بيتنا ألعاب!".
مشهدُ اقتحام الطالبة لأفكار المعلمة أسماء كان سببًا ودافعًا قويًا؛ لتتخطى المعلمة كل أحزانها وآلامها، التي تشكلت بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام (2008-2009)؛ لتستعيد المعلمة ما تختزنه الذاكرة من أفكار تعليمية مميزة، تُعيد من خلالها نشاط الطالبات وتمكنهن من العودة إلى التعليم بشكل تدريجي.
وقعت تلك الحادثة بين المعلمة أسماء وإحدى طالباتها بعد (21 يومًا) من العدوان الإسرائيلي عندما عادت عجلة الحياة في قطاع غزة إلى الدوران، وإبانِ ذلك أصدرت وزارة التربية والتعليم قراراً بمنح الطالبات ساعات للتفريغ النفسي بممارسة أنشطة رياضية وترفيهية.
ومنذ تلك اللحظة بدأت معلمة اللغة الانجليزية أسماء مصطفى تُفكر خارج الصندوق باستخدام "الألعاب التعليمية"؛ لتضمن وصول المعلومة إلى الطالبات بكل سهولة ويسر، لتتغلب على ما يشوش أفكارهن؛ وبعد سنوات عدة من تجربة الألعاب، أمستْ المعلمة أسماء واحدة من أهم وأبرز المعلمات على مستوى فلسطين والدول العربية لتحصد عشرات الجوائز القيمة.
اعتمدت المعلمة أسماء ثلاث ألعاب تعليمية، لتعليم الطالبات منهاج اللغة الانجليزية، بدأتها بلعبة التلفون، مرورًا بلعبة "الخطوة"، ثم تمثيل معنى الكلمة الانجليزية، تقول لـ"شمس نيوز": "إن ممارسة الألعاب التعليمية جعلت الطالبات أكثر قربًا مني، وشعرت بحب وفرحة واسعة جدًا، واستجابة عالية من الطالبات أدى إلى زيادة النشاط والتفاعل والتنافس على المشاركة".
من هي أسماء مصطفى؟
أسماء مصطفى في (الثلاثينات من العمر) هي معلمة اللغة الانجليزية في مدرسة حليمة السعدية الأساسية للبنات شمال قطاع غزة، بدأت دراسة اللغة الانجليزية في الصف السابع عندما كانت طالبة في إحدى مدارس المملكة العربية السعودية.
استعادت أسماء شريط ذكرياتها الأولى مع اللغة الانجليزية، لتنير طريق من يرغب بتعلم اللغة الانجليزية، فكانت تستمع منذ الصغر إلى إذاعة الـ "بي بي سي"، وإذاعة "مونت كارلو"، بتشجيع من والدها الذي كان خير سندٍ لها.
تضيف أسماء: "كنت استمع في بداية تعلمي اللغة الانجليزية إلى المتحدثين الأصليين، ولم أكن في البداية افهم شيئا منهم؛ لكنني أحببت اللغة بشكل كبير، وبذلت كل جهدي لأتحدث اللغة كلغة، فكنت أستمع للإذاعات والأناشيد، وأشاهد الأفلام واقرأ قصص قصيرة، سعيت لتعزيز اللغة لأتمكن من التفوق والنجاح".
حققت أسماء الخطوة الأولى بتعزيز قدرتها على التحدث باللغة الانجليزية، وبدأت تستمع وتشاهد أكثر وتقرأ أكثر لتتعلم اللهجات المختلفة، ما جعلها طالبة متميزة عن زميلاتها، وتمكنت في الثانوية العامة –الفرع العلمي- من حصد 95%.
قرار مصيري
نتيجة أسماء في الثانوية العامة وضعتها أمام قرارِ مصيري، فتباينت رغبة العائلة مع اهتماماتها وميولها، فكانت العائلة تدفعها لدراسة الهندسة، هنا توقف أسماء قليلًا عن سرد الحكاية، وعادت بنا للحديث عن حبها وعشقها للغة الانجليزية، فتقول: "أحب اللغة الانجليزية كثيرًا وجدت نفسي بين الكتب الأجنبية والأفلام المميزة وهي لغة العصر والتقدم والتكنولوجيا".
أسرعت أسماء في استكمال حكايتها، فتقول: "لم أكن أرغب بدراسة الهندسة وكان قلبي يدفعني لدخول قسم التربية -لغة انجليزية-، وعندما عرضت ذلك على والدتي شجعتني كثيرًا ودفعتني للتسجيل بشكل سريع".
45 استراتيجية للتعليم بالألعاب
بعد انتهاء الدراسة الجامعية حصلت أسماء على شهادة التفوق وانتقلت فورًا إلى حقل التعليم، لتبدأ بنقل تجربتها وتعزز اللغة الانجليزية لدى الطالبات، مستخدمة طرق ووسائل تعليمية جديدة تعتمد على ممارسة الألعاب التعليمية.
وجدت المعلمة أسماء من خلال الأنشطة الترفيهية والتعليمية بالألعاب تفاعلًا كبيرًا من الطالبات، بل زادت مشاركتهن ورغبتهن في استمرار (الحِصة الدراسية) رغم انتهاء الوقت، وهذا أمر يُشعرها بالفخر والسعادة.
تحمس الطالبات واشتياقهن لدرس اللغة الانجليزية دفع المُعلمة أسماء؛ لتطوير الأساليب التعليمية بالألعاب، فبعد 10 سنوات تمكنت أسماء من إعداد كتاب يحتوي على 45 استراتيجية تعليمية تتكون من أنشطة وألعاب ترفيهية.
تُشير أسماء إلى أن جميع المعلمات في المدرسة لاحظن بعد ممارسة استراتيجية التعليم بالألعاب للغلة الانجليزية فرقًا واضحًا في التحصيل الدراسي للطالبات، فيما زاد حب الطالبات للغة واشتياقهن لدرس جديد.
مرحلة جديدة
تميُز المعلمة أسماء في استخدام أساليب تعليم اللغة الانجليزية بالألعاب، دفعها لاستخدام أسلوب جديد، إذ أطلقت عام 2019 مشروع الشراكة التعليمية بين المدارس، ومنذ تلك اللحظة دخلت أسماء مرحلة جديدة في حياتها التعليمية.
وتمكنت بعد فترة وجيزة من مشروع الشراكة التعليمية من الفوز بلقب المعلم العالمي لعام 2020 من إحدى الشركات المتخصصة بتدريس اللغة الانجليزية، -مقرها في الهند-، ليتوالى بعدها حصد الألقاب، إذ تمكنت من في العام 2021 من حصل لقب المعلمة المبدعة، وفي عام 2022 حصدت لقب معلمة فلسطين الأولى في المحافظات الجنوبية والثانية على فلسطين، وفي عام 2023 حصدت على جائزة الإعلام الاجتماعي كأفضل صانع محتوى على (Facebook – فيسبوك)
إبداع المعلمة الفلسطينية أسماء مصطفى والألقاب التي حصدتها خلال الفترة الماضية دفع مؤسسات أجنبية وعربية لتواصل معها ومنحها ألقاب جديدة ومنها:
1- معلم معتمد لدى ناشيونال جيوغرافيك وعضو فريق العقول المستكشفة في التعليم لديها.
2- معلم جوجل معتمد.
3- معلم مايكروسوفت مبدع خبير.
4- معلم آبل معتمد وعضو نادي معلمي آبل العالمي.
5- مدربة محور الشراكة العالمية في التعليم لدى المعهد الوطني للتدريب والقيادة.
مشروع التوأمة
لم تتوقف المعلمة أسماء عند حصد الألقاب والجوائز، بل واصلت التفكير خارج الصندوق، لتتمكن من إطلاق مشروع مهم جدًا في ممارسة تعليم اللغة الانجليزية، وذلك بممارسة اللغة والاستماع لها والتحدث مع أهلها.
واستخدمت المعلمة أسماء خلال مشروع التوأمة الإلكترونية برنامج (Zoom - الزوم) وتطبيق (Skype - السكايب)؛ بهدف فتح غرف صفية يشترك فيها طلبة بنفس المستوى من جميع دول العالم الغربي والعربي.
وتقول: "أسعى من خلال المشروع فتح أبواب العالم أمام الطالبات من خلال زيارات تعليمية افتراضية، إذ أشارت إلى أن مشروع التوأمة الإلكترونية تمكن من زيارة نحو 60 دولة في العالم، وعقد ما يزيد عن 280 لقاءً تعليميًا عالميًا".
وعددت المعلمة أسماء بعض المشاريع التي أطلقتها بالشراكة مع مؤسسات تعليمية أجنبية ومنها: "مشاركة في مشروع BBC Live Classes - مشروع Hands Up - مشروع التوأمة التعليمية بالتعاون مع British Council - المجلس الثقافي البريطاني - مشروع انشودة السلام العالمي برعاية جامعة شوكويو في اليابان.
أهداف وطنية
تسعى المعلمة أسماء مصطفى من خلال توسيع المشاريع المشتركة مع الدول الأجنبية لتحقيق أهداف عدة، منها تعزيز ثقة الطالبات بأنفسهن وتبادل الثقافات وكسر الجمود، وتزويد الطالبات بلغة حيوية منطوقة ومسموعة.
ومن الأهداف التي وضعتها المعلمة أسماء ضمن خطتها هو مشروع "رسائل من غزة إلى العالم"، إذ تختار نحو 20 طالبة متميزة في اللغة الانجليزية كل عام؛ ليتواصلن مع طالبات من الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية أخرى.
وتتبادل الطالبات رسائل مختلفة بعيدة عن المنهاج، منها ما يتعلق بالتعريف بالقضية الفلسطينية، وأخرى توضيح الحقائق والمعلومات المزورة لدعم الرواية الفلسطينية في مواجهة رواية الاحتلال الإسرائيلي.
"كوني جريئة واجعلي لنفسك حلم جريء" بهذه الكلمات توقفت قصة المعلمة أسماء مصطفى التي وجهت رسالة للمرأة الفلسطينية التي يصادف يومها العالمي 8 آذار/مارس من كل عام، إذ قالت عبر "شمس نيوز": "أنتِ المجتمع، وأنتِ الحب والأمل، وأنتِ صانعة الرجال، وأنتِ المعلمة والطبيبة والمهندسة والريادية والمربية وحامية هذا الوطن ودرعه المتين، ثقي بأن الغد الأجمل سيكون على يديك، فمنكِ تولد العزيمة وتولد كل النجاحات".