لم يكن قول الشاعر محمود درويش في قصيدته الشهيرة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، مجردَ كلام موزون أو نَظْمٍ مُنَمَّقٍ فحسب، وإنما تعبير صادق يتجلى فيه أسمى معاني الارتباط بالأرض والانتماء إليها.
هذه المقولة أعادتها إلى الحياة لتنبض من جديد، الحاجة السبعينية أمونة القرا (أم نسيم) من مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، التي حوَّلت أرضها إلى مزار سياحي وقِبْلَة لأهالي قطاع غزة المحاصر؛ سعياً منها للحفاظ على الموروث الوطني وترسيخه في الوجدان الاجتماعي للأجيال الفلسطينية المتعاقبة؛ لتدحض مقولة "الكبار يموتون والصغار ينسون".
في أحضان الطبيعة الخضراء، وفي الزاوية المخصصة للزوار، تجلس السبعينية متنسمةً هواء وطنها المُعَبَّقِ برائحة الورود والبرتقال وما ينتجه من خيرات وفيرة، وحولها مجموعة من الزوار الذين قصدوا أرضها؛ للاستماع إليها وهي تروي ذكرياتها الجميلة في سن الطفولة، تقول: "أهوى الأرض منذ كنت طفلةً، أعرفها وتعرفني، أحبها وتحبني، أزرعها بحب وتزرع قلبي بالحب"، ارتباط الجدة أمونة بأرضها يزيد كلما كبرت في العمر، فالارتباط بالأرض علامة الوفاء!
لم تعش الحاجة أمونة طفولتها كباقي نساء جيلها، بل أثقلت الحياة كاهلها بالأحمال الثقيلة منذ سن مبكرة، تضيف والعَبراتُ الخجولة تتسلل من عينيها الواسعتين اللتين تحدقان في السماء: "عملتُ مع وَالِدَيَّ في مهنة الزراعة وفلاحة الأرض منذ كان عمري 7 أعوام، كما كنت أتولى مهمة تربية إخواني الصغار وتوفير احتياجاتهم"، وبتنهيدة عميقة تكمل حديثها: "كانت بالفعل طفولة صعبة ومريرة (..)".
على الجانب الآخر من أرضها، يتربع "فرن الطينة" العتيق الذي تخبز به المأكولات الشعبية، كمناقيش الزعتر وخبز الصاج، وتقدِّمها إلى زوارها بجانب الأكلات التراثية الفلسطينية، مثل: الخبيزة، والمفتول، والحمصيص، والعكوب، والفريكة، وغيرها من المأكولات التي توارثت طريقة صنعها من أمها وجدتها، وورَّثتها لبناتها وحفيداتها.
يجذبك حديث الجدة الدافئ المعبَّق بالحب والأمل، ترى في تجاعيد وجهها العراقة والتاريخ، كل ما فيها يشبه فلسطين، الوجه الأصيل أصالة الأرض، محملة بأنَّات الجرحى، وغضب الثائرين، وصمود الأسرى، وبصوتها الحنون الذي يطرب الآذان تصدح: "يا ظريف الطول يا سن الضحوك.. يا إللي رابي في دلال إمَّك وأبوك.. يا ظريف الطول يوم إللي غربوك، شعر راسي شاب والضهر انحنى"، وسط سعادة كبيرة تظلل قلوب الحاضرين.
هذه الصورة الجميلة لا يعكِّر صفوها سوى جنود الاحتلال وآلياتهم العسكرية الجاثمة على الأرض المباركة، متحصنين خلف سياج حديدي شائك يفصل بين مدننا المحتلة، احتلال غريب طارئ لا تاريخ له، لا يعرف للإنسانية معنى، ولا يَرْقُبُ في شيءٍ إلَّاً ولا ذمَّةً، تتبرأ الأرض منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب، إنها الأرض التي خضَّبتها دماء الشهداء، "وهل هناك أزكى من دم الشهيد؟".
رباط العشق الأبدي الذي يربط الحاجة أم نسيم بأرضها ووطنها، لم تفلح قوات الاحتلال في كسره أو تمزيقه، إنه رباطُ الإباء والعزة، رباط الروح بالجسد، تتشبث بأرضها كشجرة معمرة تحلق في سماء العزة والرفعة، فـ"على هذه الأرض ما يستحق الحياة" ليس شعاراً بل هو يقين ومبدأُ حياة اتخذته الحاجة السبعينية منذ طفولتها، ولن ينفك مهما حاول الاحتلال وسعى، سَعْيُ الاحتلال الخبيث لن يُرى ولن يبصر النور أبداً، هذا قرارُ الفلسطيني لا بديل عنه ولا تفريط، هنا سَيُحْفَظُ التاريخ وستُحفَظُ التضحيات.