تقف الكلمات حائرة عند الحديث عمن قدموا زهرات شبابهم ما بين اعتقال ومطاردة وختموا سجل حياتهم بشهادة مشرفة فكان لموقع سرايا القدس الدور والشرف لتسليط الضوء للحديث عن حياة القائد معتصم مخلوف أحد أبرز قادة سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في الضفة المحتلة بذكرى استشهاده.
في مثل هذا اليوم وقبل 21 عاماً ودعت جماهير الشعب الفلسطيني الشهيد القائد معتصم محمود عبدالله مخلوف أحد أبرز قادة سرايا القدس في الضفة الغربية المحتلة، بعد أن أذاق العدو الويلات وجرعهم كأس المنون عبر تخطيطه لعدد من العمليات الاستشهادية التي أدت لمقتل وإصابة العديد من الصهاينة.
ميلاد قائد
في الطريق المؤدية إلى قرية بلعا -قضاء طولكرم شمالي الضفة الغربية المحتلة كانت رائحة الشهداء تنبثق من سهل عنبتا معلنة بأن دم الشهداء هنا سال وفاحت رائحة المسك لتكون وفاءً للإسلام وفلسطين، وهي على ترابط وجداني مع دماء الشهيد عبد الرحيم محمود في معركة الشجرة.
أما بلدة عنبتا -شرقي طولكرم- فكان للشهيد معتصم مخلوف مولد في يوم 26\1\1974م، ومن ذاك اليوم ووالداه يغرسان فيه معاني التضحية والفداء والدفاع عن الوطن، فقد تربى الشهيد في بيت تتجلى فيه التضحيات والوفاء فكان بذلك محبا للآخرين وسباقا للخير وطيب القلب صبورا، وقد درس في بلدته وبين أبنائها في مدرسة عبد الرحيم محمود حتى مرحلة الأول ثانوي، وكان معروفاً حينها بتفوقه العلمي ليحصل على شهادات التقدير في كل الصفوف، حتى انخرط في صفوف المقاومة خلال انتفاضة الحجارة، وهو ابن خمسة عشر ربيعاً رفقة مجموعة من أبناء جيله إلى أن اُعتقل خلال مرحلة الثانوية العامة على خلفية ذهابه لمساعدة الطالبات اللواتي أغلق الاحتلال عليهن المدرسة، ليؤدي امتحانات الثانوية العامَة في السجن، وحصل على معدل جيد، وتم الإفراج عنه، وبعد ذلك انتقل للدراسة الجامعية في جامعة القدس المفتوحة لدراسة إدراة الأعمال".
جهاد منذ الصغر
لم يعرف عن الشهيد سوى عشقه للوطن وتضحيته في بذل نفسه؛ فكان مقداما مجاهدا منذ نعومة أظافره فكان قد أصيب برجله ذات مرة وهو في عرض عسكري في قرية رامين عام 1990م، وتم نقله إلى مستشفى رفيديا وتعالج هناك ولم تتمكن قوات الاحتلال من اعتقاله وبقي مطارداً، ولم يقف الحال عند إصابته بل استمر في نشاطه ليصاب في العام التالي مرة أخرى، ففي تاريخ 21\6\1991 دخلت قوات خاصة بسيارة من نوع سوبارو إلى البلدة تتصيَد لمعتصم، حتى نالت مبتغاها واعتقلت معتصم ليمكث في زنازين التحقيق 40 يوماً، ويستخدموا معه أبشع أنواع التعذيب كالصعق بالكهرباء، والنتف والشبح، ويحكموا عليه بالمؤبد وخمسة عشر عاماً.
وبتاريخ 5/1/1996 ذهبت والدة معتصم إلى تأبين الشهيد يحيى عياش في نابلس، وعندها قدم شخص وقال معتصم سوف يفرج عنه في صفقة اتفاق أوسلو، وبعد ساعات قليلة بالفعل كان في البيت، وحين وصلت والدته عند المغرب، سقطت أرضاً من الفرحة، قبل أن تتمالك نفسها وتحتضنه وتقبله.
وما إن اندلعت انتفاضة الأقصى المباركة حتى عاود نشاطه المقاوم مع رفيق دربه الشهيد إياد صوالحة؛ لينضم تحت قيادة الأخير إلى حركة الجهاد الإسلامي وجناحها العسكري سرايا القدس.
فكان الشهيد في صفوف المجاهدين حيث عمل بصورة جديدة؛ فقام بتجهيز العبوات الناسفة والأحزمة المتفجرة وأخذ يدرب إخوانه من أبناء السرايا على إطلاق النار، فكان -رحمه الله- مع الشهيد إياد يطاردان قطعان المستوطنين وخاضوا كثيرا من الاشتباكات على الطرق الالتفافية، ولم يكتف الشهيد بذلك بل بدأ بإعداد الاستشهاديين، فكانت باكورة أعماله العملية الاستشهادية مع الشهيد القائد أسعد دقة في عملية بيت ليد التي نفذها الاستشهادي عبد الفتاح راشد،
اختراق الشاباك
بعد ذلك جاءت عروس عملياته الاستشهادية التي دكت حصون المخابرات الصهيونية وأثبتت أن أبناء السرايا قادرون على اختراق صفوف المخابرات عبر عملية معقدة أعدّ وخطط لها بدقة عالية، وذلك بزرع الاستشهادي البطل مراد أبو العسل الذي فجر نفسه بضباط المخابرات الصهاينة فأصاب منهم اثنين بجراح، وكانت هذه العملية السبب في أن تبدأ عمليات التصفية والمطاردة بحق شهيدنا المجاهد، حيث فشلت اثنتان منهما قبل أن يرتقي شهيدنا صهوة الشهادة.
بعد العملية أقبل ضابط المخابرات إلى بيت العائلة وقال: أضرب التحية لوالدة معتصم، وسألها هل تعلمين ما الذي قام به ولدك اليوم؟ أجابت بلا، فرد عليها خطط لعملية واخترق جهاز المخابرات، وجاء رد أم العبد، لعله يقلع عيونكم، أنا سلمته إلى ربي، ووهبته لحبيبتي الأولى فلسطين".
هدم منزل العائلة
وعن حكاية هدم المنزل يقول زكريا "في عام ٢٠٠١ كنت جالساً على الشرفة نظرت إلى الشارع وإذ به ممتلئ بجنود الاحتلال، قلت لأخي اسامة أنا لا أريد أن ابقى هنا، المنزل يعجّ بالأسلحة والمتفجرات وإذا بقينا هنا سيُحكم علينا بالمؤبد، أخذنا السلم وغادرنا من السطح أنا وأخي، لكن تفطّن لنا الجنود، وفتحوا علينا الرصاص بكثافة، حتى سمعت أخي اسامة يتألم وتبيّن أنه أُصيب برصاصه في رأسه، قمت بسحب أسامة حتى وصلنا إلى بيت الجيران، وبسبب الصوت خرج عناصر مركز الشرطة الفلسطينية معتقدين أنّ هناك مشكلة ما حدثت، فاستشهد 4 منهم على إثر ذلك.
وفي الصباح تم تفتيش المنطقة واخذوني أنا، أما أسامة فقد خبأناه تحت السرير، فسألني عن اسمي وأجبته زكريا حماد أخ معتصم، قال هذا بيتكم أجبته بنعم.
وفور وصول ضابط مخابرات سألنا عن وجود شيء ما في المنزل، فقد قررنا أن نهدمه، قلنا له اهدمه، ولكن قال أنا أريد بيت معتصم بالتحديد وهو الجزء العلوي من المنزل فوضع به الديناميت وفجره، كان منظراً هائلاً تقشعر له الأبدان".
وتقول خولة شقيقة معتصم "كانت أمي لا تريد أن تخرج من البيت، فأتوا لها بالكلاب، وانفجر المنزل، وبينما كان الجميع يبكي، قالت أم المعتصم: "يا خسارة، راحوا الزيتات"، مما جعلنا ننسى الألم، فأمي كانت قوية ولا تهاب الجيش" وتضيف أن المادة المتفجرة التي صنّعها معتصم أسماها أم العبد نسبة لأمه.
موعد مع الشهادة
قبل يوم من استشهاده نجا الشهيد القائد معتصم من محاولة اغتيال عبر تعقّب وحدة صهيونية خاصة للشهيد مخلوف في سهل عنبتا بالقرب من بلعا، إلا أن الشهيد اشتبك معهم ونجا منهم بفضل الله.
وبتاريخ 14/3/2002م كان الشهيد معتصم مع الشهيد ماهر البلبيسي -ابن السرايا ورفيق دربه- حيث أطلقت طائرات الأباتشي عدة صواريخ على مزرعة كان يوجد بها الشهيد معتصم والشهيد ماهر، فأصابتهم إصابات مباشرة استشهدا على إثرها.
وقد نعت سرايا القدس الشهيد القائد في بيان لها مؤكدة السير على دربه وعلى درب الشهداء العظام وعلى مواصلة نهج المقاومة، وقد تأثر الشهيد إياد صوالحة -قائد سرايا القدس في الضفة الغربية- باستشهاد المجاهد مخلوف، معلنا أن دماء رفيق دربه لن تذهب هدرا، وما هي إلا أشهر معدودة حتى ارتقى القائد "صوالحة" شهيدا وهو يرتدي "بلوزة" مطبوعاً عليها صورة الشهيد "مخلوف".