جاء في (نهج البلاغة) من خطبة للإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – موجِهاً كلامه إلى المُترفين في المجتمع المسلم قائلاً: "أُيّها الناس، ألا يقولن رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا، فامتلكوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيل، واتخذوا الوصائف المرققة، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا! ، ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله يرى أنَّ الفضل له على سواه بصحبته، فإنَّ الفضل غداً عند الله، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، ولا فضل فيه لأحد على أحد".
وتعليقاً على خطبة الإمام علي – رضي الله عنه – كتب المفكر الإسلامي سيد قطب في كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) يقول: "كان من الطبيعي ألاّ يرضى المستنفعون عن علي، وألاّ يقنع بشرعة المساواة من اعتادوا التفضيل، ومن مردوا على الاستئثار، فانحاز هؤلاء إلى المعسكر الآخر... حيث يجدون فيه تحقيقاً لأطماعهم، على حساب العدل والحق، اللذين يصر عليهما علي – رضي الله عنه – هذا الإصرار... لقد كان واجب علي الأول والأخير، أن يردَّ للتقاليد الإسلامية قوتها، وأن يردٌ إلى الدين روحه".
أدرك الإمام علي – رضي الله عنه – ببصيرته أنَّ توزيع المال العام وفق معيار السبق في الإسلام أحد الأسباب التي تؤدي إلى وجود ظاهرة الترف في المجتمع المسلم، فأراد تصويب هذا الوضع، وتصحيح اعتقاد المسلمين بردهم إلى أنَّ السبق في الإسلام أجره عند الله تعالى في الحياة الآخرة وليس في الحياة الدنيا، وأنَّ الفقراء أولى بالمال العام من أولي السبق في الإسلام منعاً لتكدس الثراء في جانب والحرمان في جانبٍ آخر تطبيقاً لمبدأ التكافل الاجتماعي، وهذا ينسحب على السبق في الدعوة والثورة فيمن يرْون أنفسهم أحق بالمال العام من غيرهم، وهو أصل من أصول الترف الذي يُفسد الدعوة والثورة في الحياة المعاصرة.
الترف الذي يُفسد الدعوة والثورة هو بالمعنى اللغوي والاصطلاحي ضد الزهد وترك ملذات الدنيا، وتجاوز لحد الاعتدال في مُتع الحياة، وتخطي لحد الوسط في التعامل مع النعم، وزيادة على الثراء إسراف وبذخ، وإفراط في الرفاهية لدرجة الخُيلاء والاستعلاء، وشطط في الرخاء وصولاً إلى الزهو والتطاول. والترف في سنن التاريخ مرتبط بانحراف الجماعات، وفساد المجتمعات، وهلاك الأمم، وخراب العمران، وسقوط الدول، وهذا ما سجّلهُ العلاّمة العربي عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته موضِحاً أنَّ ترف النخبة الحاكمة ورفاهيتها الزائدة أولى علامات هلاك الأمم وسقوط الدول، ومما ذكره: "ويبلغ فيهم الترف غايته بما تقلّبوا فيه من النعيم ونضارة العيش، فيصيرون عالة على الدولة، ويفقدون العصبية بالجملة، وينسوْن الحماية والمدافعة والمطالبة".
سُنّة الهلاك بعد الترف؛ ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى: " وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا". فالترف يؤدي إلى: سقوط الهمة، وضعف الإرادة، وفتور الحماسة، وفقدان الرجولة. وتقدم صفات: الجزع، والجبن، والخور، والخنوع، والحرص، بدل صفات: الصبر، والشجاعة، والحميّة، والمروءة، والعطاء. وهذا ما حذّر منه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقوله: " فَوَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ. ". والهلاك يُصبح قدراً محتوماً عندما تصمت الجماعة ويسكت المجتمع عن آفة الترف ولم يزل أسبابه، وترك المترفين يُفسدون دون الأخذ على أيديهم، فتتفشى آفة الترف في جسم الجماعة والمجتمع حتى يُهلكه ويُرديه.
هلاك الجماعات والمجتمعات بسبب الترف لارتباطه بالتخاذل والتقاعس عن الجهاد في سبيل الله والقتال من أجل الوطن، وهو ما أكده القرآن الكريم في صفات المُترفين الذين سمّاهم "أولي الطول" الذين أقعدتهم أموالهم وأملاكهم ومُتعهم عن القتال، كما قال تعالى: "إِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسْتَـْٔذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ ٱلْقَٰعِدِينَ". فالترف يؤدي بالمُترفين إلى التعلّق بملذات الحياة ومُتعها، والخلود إلى الأرض وملذاتها، والركون إلى الدعة والراحة، والرضى بالذلة والدنيّة، وتفضيل الموادعة على المنازلة، وتقديم المسالمة على المقاومة، والنزوع نحو السكينة المصحوبة بالأمان والمعرة، بدلاً من الثورة المصحوبة بالمخاطرة والإباء.
وكما يؤدي الترف إلى فساد الدين، وهلاك المجتمع، وسقوط الدول... فإنَّهُ يؤدي إلى نفس النتيجة في الثورات إذا ما ضربتها آفة الترف، وبالتحديد ثورات الكفاح الوطني في مرحلة التحرر الوطني، مثل الثورة الفلسطينية المعاصرة، وفي مثل هذه الحالات يكونُ الترفُ أسرع إِفساداً، وأشدُّ إِهلاكاً، وأعمقُ إِسقاطاً. وهذا الترف من بين الأسباب التي قادت بعض الثوار القُدامى إلى القعود عن القتال، والتخاذل عن المقاومة، وأوصلتهم إلى التخلّي عن مشروع الثورة كُلَّهُ، والتراجع عن هدف التحرير جُلَّهُ، والارتكاس في قاع التنسيق الأمني مع الاحتلال... حفاظاً على استمرار حالة الترف لدى النخبة المُترفة من الثوار والقادة المُروّضين.
حالة الترف لدى النخبة المُترفة في أي ثورة، كآفة موجودة في أي زمانٍ ومكان، تكون أكثرُ سوءاً وأبعدُ هزلية، عندما تطفو على سطح الثورة شخصيات كاريكاتورية يُناقضُ قولها عملها ويُبايبنُ كلامها فعلها، منها عندما: يخطبُ شيخٌ مترفٌ عن فضيلة الزهد، ويتحدثُ واعظٌ متنعمٌ عن ضرورة التقشّف، ويتكلمُ ثائرٌ متمرغٌ بالأموال والعقارات والأسهم عن خُلق الصبر، ويُحاضُر قائدٌ فاسدٌ عن قيمة النزاهة، ويُعطي مسؤولٌ مرتشٍ درساً عن أهمية الشفافية، ويكتبُ زعيمٌ هاربٌ خارج الوطن بمحضِ إرادته وما نهبه من المال العام عن حق العودة... عند ذلك الحد من الكوميديا السوداء التي أبدعها تناقض الشخصيات المُترفة لا مفر سوى استدعاء خيار أبي ذر الغفاري.
خيار أبي ذر الغفاري هو الثورة، فقال: "عجبتُ لمنْ لا يجدُ القوتَ في بيتهِ كيفَ لا يخرجُ على الناسِ شاهراً سيفه". وكأنّهُ فهم الحديث النبوي: "ما آمَنَ بي مَن باتَ شَبعانَ وجارُه جائعٌ بجَنبِه وهو يَعلَمُ به " فترجمهُ ثورةً، ولو اتبع الناس منهج التكافل الاجتماعي في الإسلام كما حدده رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومُلّخصهُ: " مَن كان معه فضلُ ظَهرٍ فلْيعُدْ به على مَن لا ظهرَ له ومَن كان معه فضلُ زادٍ فلْيعُدْ به على مَن لا زادَ له "، لما حدث الترف الناتج عن التفاوت الاقتصادي بين أقلية مُترفة وأكثرية محرومة... وبالتالي لما كان لنا حاجة باستحضار خيار أبي ذر الغفاري... فالحل في محاربة الترف في المنهج الاقتصادي الإسلامي الذي يحقق التوازن الاقتصادي والتكافل الاجتماعي، ويضع ضوابط أخلاقية وقانونية، تمنع تكدّس المال، واحتكار الثروة، ونهب الفقراء، واستغلال المال العام.