وقفت الطفلة تاليا على باب المنزل تراقب حركة والدها الذي استيقظ متأخرًا على غير عادته، ارتدى ملابسه بسرعة ورشاقة، وبوجهه المبتسم اقترب بهدوء من زوجته يطبع قبلة على جبينها ويقول لها: "لقد تأخرت كثيرًا، الشباب ينتظرونني"، قابلته الزوجة بابتسامة عريضة؛ لكنها أشارت له برؤية تاليا التي انهمرت دموعها لأول مرة دون معرفة الأسباب.
بقلب يحفه الحب والحنان اقترب الأب "علي الأسود" من طفلته الصغيرة تاليا (لا تتجاوز العامين)، فقد دار بين الأب وطفلته حوار كأنه الوداع الأخير: "لماذا تبكين يا حبيبتي؟"؛ لسان الطفلة لم يتحرك فأجابته الدموع بسرعة، وهي تنهمر من مقلتيها.
حزن الأب صاحب القلب الكبير على طفلته، واحتضنها بقوة بين ذراعيه، كانت الزوجة تراقب المشهد وهي تبتسم وتقول له : "ابقَ معنا يا علي.."، انتبه الأب على كلام زوجته، ليوصيها بالاعتناء بالطفلة، وبالأبناء، وبالعائلة قبل مغادرة المنزل.
30 رصاصة!
بهذا المشهد المؤثر ودع الشهيد المهندس علي الأسود أسرته قبل لحظات قليلة من عملية اغتياله على باب منزله في ريف دمشق، بعد دقائق قليلة من مغادرته المنزل سمعت الزوجة صوت "طقطقة" للوهلة الأولى ظنت أنها "طقطقة مفاتيح الكهرباء"؛ لكن أم عبدالرحمن لم تدرك أن صوت الطقطقة كانت رصاصات غادرة أطلقت صوب جسد زوجها لتخطف روحه الطاهرة.
مرت دقائق على صوت "طقطقة الكهرباء" وفجأة رن هاتفها النقال، المتصل هو شقيقها فتحي، كان صوته مرتبكًا، بادرها بسؤال: "أين علي؟!"، هنا خفقت دقات قلب الزوجة، لتجيبه بأن "علي غادر قبل لحظات".
أغلق فتحي الهاتف، لكن شقيقته "زوجة علي" انتابها الشك والخوف، نظرت على باب الشقة دون أن تجد شيئًا، عاد اتصال فتحي مرة أخرى، ارتبكت أم عبدالرحمن وبدأ جسدها يرتجف من الخوف، لتبادره هي بالسؤال: "أين علي؟!"، في تلك اللحظات نظرت من النافذة الخلفية للمنزل؛ لتجد سيارته وأطرافاً من جسد علي ملقاة على الأرض.
"علي هنا!، علي ملقى على الأرض، يبدو أن شيئا ما حدث له، السيارة بها بعض الثقوب"، تفحصت الزوجة المكان أكثر؛ لكنها لم تجد شيئاً سوى انتشار بقع الدماء، صرخت أم عبد الرحمن من هول المشهد المرعب لتركض صوب زوجها المسجى بدمائه الطاهر.
مباشرة تواصل فتحي مع أصدقائه وأبلغهم بأن عليًا تعرض لإطلاق نار، وعلى الفور هرع الجميع صوب السيارة ليجدوا جسده الطاهر قد تلقى نحو (30 طلقة) من سلاح كاتم للصوت، بكى الجميع على استشهاد علي فهو الخلوق، والصديق، والجميل، والمبتسم، والقائد.
مآثر علي التي لا تنسى!
ولد الشهيد علي الأسود في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في العاصمة السورية دمشق، في أكناف أسرة فلسطينية محافظة؛ فهو من رواد المساجد ويحفظ أجزاء كثيرة من القرآن الكريم، منحته صفة الأخلاق الحميدة والكرم والشجاعة والإخلاص والوفاء.
سبقت عملية الاغتيال بأيام قليلة تفاصيل أخرى تتعلق بكرمه وشهامته، إذ يتوقف فتحي –شقيق زوجة الشهيد علي الأسود- خلال حديثه مع "شمس نيوز" عند بعض المشاهد والمواقف الجميلة يقول: "قبل أيام قليلة فقط اشترى لأطفاله الألعاب والحاجيات والبسكويت، كما أنه دعا العائلة للقاء على وليمة الحلويات التي يعشقها وهي الكنافة العربية".
يحاول فتحي أن يغرف من ذاكرته المواقف الجميلة لـ"علي" ليستعيد بعضا من اللحظات التي لم ينسَ أيًا منها: " كان محبوبًا عند الأصدقاء والجميل أن الشهيد عليًا كان بمثابة القائد والمعلم للكثيرين رغم صغر عمره؛ فهو يتمتع بقلب ولسان جميل لا يتكلم إلا بالحق والخير وذكر القرآن الكريم"، فكان فتحي وأصدقاء كثر يلجؤون إلى علي ليستشيروه في بعض الأمور الخاصة.
شهيد ابن شهيد وشهيدة!
تأثر الشهيد علي باستشهاد والده بتاريخ (6-11-2012) في الأحداث المؤسفة في سوريا، في تلك اللحظة وجد علي حضن والدته الدافئ، والذي لم يستمر طويلًا حتى تحول حضن الأم إلى حلم بعيد المنال، بعد أن استشهدت في انفجار سيارة مفخخة أمام المنزل بتاريخ (6-12-2012) أي بعد شهر من استشهاد والده.
حادثة استشهاد والديه دفعت الشهيد عليًا للالتزام أكثر في المساجد والتعليم رغم الإغراءات التي كانت أمامه من عمل وسفر، إلا أنه وضع طريق الجهاد والاستشهاد نصب عينيه، يقول فتحي: "استشهاد والديه كانت نقطة تحول في حياته؛ فلم يعد كما كان سابقًا، إذ بات كثير التعبد والزهد وحفظ القرآن الكريم، وتمكن من الحصول على شهادة في علم الوراثة الإسلامية والتجويد وغيرها الكثير من الشهادات العلمية".
لم يتوقف علي الأسود عند هذا الحد، بل سلك طريق الجهاد والمقاومة، وبات يغيب كثيرًا عن المنزل؛ لطبيعة عمله الذي وهبه كل وقته؛ فهو يعمل على مدار (16 ساعة) متواصلة دون انقطاع.
تميز علي بإتقان عمله، فكان يستغل كل وقت الفراغ للبحث عن شيء يسعد فيه أسرته وعائلته وأصدقاءه، يقول فتحي: "الأموال التي يملكها ليست له؛ فهو يصرفها على أصدقائه وأحبابه وفي أوجه الخير؛ فهو ملتزم بأوامر الله عز وجل في إنفاق الأموال بالطريقة الصحيحة والمفيدة".
شهيد على طريق القدس
وسعى علي خلال عمله لوضع هدف لتحقيقه وهو الشهادة على أبواب المسجد الأقصى، إذ كان دائم التضرع إلى الله بأن يرزقه الشهادة على طريق القدس والأقصى مقبلًا، وفق ما يقول فتحي.
ولم ينسَ فتحي الحديث عن علاقة علي بشهر رمضان إذ يقول: "يقضي علي كل وقته في عمله حتى في شهر رمضان؛ لكن عندما يكون أمامه متسعًا من الوقت يدعو الجميع لمشاركته في وليمة الافطار، ويحب دائمًا أن يشتري الحلويات التي يتناولها يوميًا".
واستشهد علي الأسود صباح يوم الأحد الموافق (19-3-2023) في عملية "اغتيال جبانة" بريف دمشق وهو أحد مهندسي وقادة سرايا القدس الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في سوريا، ويعتبر الشهيد السادس للحركة في سوريا منذ عام 2019.