يشكّل دخول البرازيل على خط المواجهة مع الدولار الأميركي منعطفاً هاماً نظراً لكونها أكبر دولة في أميركا اللاتينية، وخامس دولة في العالم مساحة، والسابعة سكاناً، والثامنة في الاقتصاد العالمي، وسبق أن ارتبطت عملتها المحلية بالدولار عام 1994. فهل يمكن لهذا التحوّل العالمي الذي تقوده الصين أن يؤسس لتغيير جذري حقيقي يحد من الطغيان الأميركي الاقتصادي على العالم؟
ويأتي هذا التحوّل في الموقف البرازيلي بعد شهور قليلة، من فوز اليساري لولا دا سيلفا، رئيساً للبرازيل، وسقوط التابع الأميركي جايير بولسونارو، وظهر الأول في الانتخابات وهو يرتدي الكوفية الفلسطينية، فيما خرجت زوجة الأخير وهي تتشح بشعارات مؤيّدة لـ "إسرائيل"، في تباين رمزيّ حادّ يلخص مجمل الاصطفافات السياسية والاقتصادية من خلال مظلومية الشعب الفلسطيني، وهي مظلومية يتولى كِبْرُها الطغيان الأميركي.
وكان الدولار حلّ محل الإسترليني بصدارة عملات الاحتياطي العالمي، بموجب اتفاق بريتون وودز في نهاية الحرب العالمية الثانية، ومنذ ذلك الوقت حاولت قوى عالمية كثيرة تجاوز هيمنة الدولار، من دون فائدة، خاصة دول أميركا اللاتينية في السبعينيات والثمانينيات، وهو ما تجدّد بعد عام 2008 عقب أزمة الرهن العقاري في أميركا.
نجاح الصين في ضم البرازيل إلى الحرب على الدولار، بعد أقلّ من شهر على نجاحها في رأب الصدع العميق بين إيران والسعودية، يشير إلى نشاط صيني متعدّد الأوجه، ولكنه يحتفظ بوجهة واحدة وهي محاولة كبح جماح التفرّد الأميركي على العالم، وخلق فرصة لبروز قوى عالمية أخرى.
شهد الدولار الأميركي في الآونة الأخيرة، تراجعات كثيرة في الهيمنة على سوق المال العالمي، حيث تراجع من 80% في الاحتياط النقدي العالمي قبل عشرين عاماً، ليصل إلى 59% حالياً، وهو تراجع لم يجد من يملأ فراغه حتى الآن، رغم الارتفاع في نسبة اليوان الصيني، لكنه ارتفاع لم يعادل نسبة 15% التي يحتلها الناتج الصيني في الاقتصاد العالمي، مقابل 21% لصالح الاقتصاد الأميركي.
الاتفاق الصيني البرازيلي على التبادل التجاري، سيسمح للبلدين بإجراء صفقاتهما التجارية الهائلة مباشرة واستبدال اليوان الصيني بالريال البرازيلي، والعكس بالعكس بدلاً من الاعتماد على الدولار. وهو اتفاق مضمون النجاح والثبات، نظراً لأن الصين تعتبر الشريك التجاري الأول للبرازيل، وقد بلغت قيمة التبادل التجاري بينهما نحو 150 مليار دولار العام الماضي، وهو اتفاق يقلل تكاليف النقل بين البلدين، ويعزّز التجارة الثنائية أكثر ويسهّل الاستثمار.
يأتي الاتفاق الصيني البرازيلي ليؤكد جدية دول بريكس (الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا) في قرارها الصادر العام الماضي على إنشاء عملة جديدة، تنافس الدولار، خاصة مع انضمام البرازيل الآن إلى روسيا والهند في تجنب الدولار في التبادلات التجارية مع الصين، في وقت شهد المسعى الصيني لضم إيران والسعودية، لهذا التكتل الدولي خطوات جدية، وإيران معزولة عن التعامل بالدولار نظراً للعقوبات الأميركية. لكن هل يمكن دفع السعودية للمشاركة في التخلي عن الدولار، وهي أكبر مصدّر للنفط في العالم؟
تحتل الصين حصة الأسد في استيراد النفط السعودي؛ 46 مليار دولار سنوياً، مقابل الاستيراد الأميركي فقط 12 مليار دولار سنوياً، لذا تبدو من مصلحتها الاستجابة للمسعى الصيني، وقد أعلنت بالفعل انفتاحها على التداول بعملات أخرى غير الدولار، لكن الاتفاقية الموقعة بينها وبين أميركا عام 1974، بحصر تصدير نفطها بالدولار، وهي الاتفاقية التي سبقت قرار الرئيس الأميركي نيكسون باستغناء الدولار عن الذهب، بثلاث سنوات فقط، بما يشير لارتباط قرار نيكسون هذا والذي غيّر العالم، بالاتفاق السابق مع السعودية، بما يجعل التغيير السعودي في غاية الصعوبة، في ظل احتياط مالي بعملة الدولار، حوالي 472 مليار دولار.
سبق لروسيا أن حقّقت نقلة نوعية في مواجهة الدولار واليورو، عقب اشتراطها الدفع بالروبل الروسي، في كل صفقات الغاز مع أوروبا، في خضم الحرب الدائرة في أوكرانيا، حيث ارتفعت قيمة المشتريات الأوروبية من 14 مليار متر مكعب عام 2021، إلى 20 مليار متر مكعب عام 2022، مع ارتفاع حادّ في الأسعار، بما حافظ على تماسك الروبل مقابل الدولار.
تصاعد الحراك العالمي بقيادة الصين، في مواجهة الدولار، مع مشاركة القوى الكبرى في العالم، يسرّع في تراجع قوة الدولار كعملة عالمية، والحديث هنا يدور عن أربع قوى رئيسة في العالم حسمت أمرها؛ الصين وروسيا والهند والبرازيل، مع عدد من الدول الإقليمية الفاعلة المعزولة أصلاً عن الدولار مثل إيران وكوريا الشمالية، إضافة إلى دول إقليمية مثل تركيا والسعودية وباكستان والعراق، والتي أعلنت نيتها التخلص من هيمنة الدولار المطلقة على تبادلاتها التجارية، وإن لم تقطع شوطاً عملياً في ذلك حتى الآن.
وسبق للرئيس البرازيلي لولا، والرئيس الأرجنتيني فرنانديز، أن أطلقا محادثات بشأن "عملة موحّدة لأميركا اللاتينية" في بيان مشترك، جاء فيه أن العملة ستُستخدم "للمعاملات المالية والتجارية، بهدف خفض تكاليف التشغيل وتقليل العوامل الخارجية التي قد تُضعِف موقفنا في مواجهة الدولار".
يصعب خلال العقد الراهن توجيه ضربة قاضية للدولار كعملة عالمية، حتى لو استمرت الجهود الصينية في تحقيق النجاح بهذا الخصوص، إذا علمنا أن 39 دولة تعتمد الدولار عملة لها، و32 دولة تربط قيمة عملتها بالدولار، إضافة إلى النفوذ الأميركي في العالم على جميع المستويات؛ وهو نفوذ يحتل فيه الإعلام الأميركي عبر أدواته الإقليمية قدرة فائقة في خلق حواضن ضعيفة استمرأت العبودية الطوعية حتى في أوروبا، حيث كشفت حرب أوكرانيا عن مستوى عميق من عبودية النخبة السياسية الأوروبية للسيد الأميركي.
ثمة عوامل يمكنها التسريع في احتواء قوة الدولار كعملة عالمية، في ظل تنامي إرادة الشعوب المقهورة للخروج من سطوته؛ أهمها تزايد التكتلات الإقليمية والعابرة للأقاليم، مثل بريكس، إضافة إلى تواصل تذبذبات الاقتصاد الأميركي، مع تزايد عمليات فك ارتباط النفط العالمي بالدولار، بما يخلق فضاءً عالمياً تلتحم فيه الشعوب مع قضاياها المصيرية، بعيداً عن اعتبارها حديقة خلفية للأطماع الأميركية.