حتى كتابة سطور هذا المقال، لم تتّضح بعدُ كل التفاصيل المتعلّقة بما حدث عصر الخميس الماضي، من إطلاق رشقة من صواريخ الغراد والكاتيوشا من جنوبي لبنان، في اتجاه المستوطنات الصهيونية في شمالي فلسطين المحتلة. ولا نبالغ إذا قلنا إن سياسة "الغموض البنّاء" التي تنتهجها فصائل المقاومة في المرحلة الأخيرة، تُلقي ظلالاً قاتمة على نجاعة رد الفعل الإسرائيلي، الذي كان يُوصف في مرحلة ما بأنه قاسٍ وعنيف، ويمكن له أن يُسقط كل أعداء "إسرائيل" بالضربة القاضية.
إلّا أنه يبدو أن حالة الإرباك والصدمة التي أصابت المؤسستين العسكرية والسياسية، في الكيان الصهيوني، والتي عبّرت عنها عشرات المقالات التي نُشرت في الصحافة الإسرائيلية، كبّلت يدي "الجيش" الأسطوري، وقلّصت خياراته العملانية والتكتيكية بصورة كبيرة، وجعلته أسيراً لمعادلات جديدة بدأت في التبلور واقعاً عملياً في ساحة العمليات، بعد أن كانت لفترة طويلة مجرد شعارات.
لكن، حتى لا نذهب بعيداً في التفاؤل، بشأن ما تسمّيه مصادر إسرائيلية عسكرية بـ"انحطاط تكتيكي"، و"فشل استخباري وعملياتي" تعانيهما أذرع الجيش الإسرائيلي المتعددة، وفي المقدمة منها "ذراع البر"، مضافاً إليها ما حدث خلال الشهر الأخير، من رفض بعض القطاعات في سلاح الجو، وأجهزة الاستخبارات، ووحدات العمليات الخاصة، وغيرها، المشاركة في التدريبات الدورية، او جزء من المهمّات القتالية، احتجاجاً على الإصلاحات القضائية التي حاول نتنياهو وائتلافه الحاكم تمريرها خلال الأسابيع الأخيرة، وحتى لا نقع فريسة لخديعة إسرائيلية قد تكون أُعدّت في كواليس أجهزة الاستخبارات، وهيئة أركان الجيش الصهيوني، التي من دون أدنى شك ستحاول الثأر ممن تعتقد أنه كسر هيبتها، وأذلّ كبرياءها، وحشرها في زاوية الخيارات الصعبة، يتوجب علينا قراءة المشهد في كل تفاصيله، وعرض النتائج المحتملة من جميع الزوايا، وعدم الركون إلى ما يصدر عن الصحافة الإسرائيلية، لناحية نضوب الخيارات العسكرية، أو الاكتفاء بما جرى من رد فعل، يُنظر إليه على أنه دون المستوى، ولم يحقق النتائج المرجوّة من ورائه، ولم يستطع الاقتراب من قريب أو بعيد، من استعادة ولو جزء يسير من قوة الردع التي تأكَّلت، وتقلّصت، وربما في مرحلة ما تنهار، في حال استمرت الأمور على ما هي عليه.
نتنياهو والحسابات الخاطئة:
هناك إجماع واضح، لدى جميع المختصين والخبراء، على أن ما حدث عصر الخميس كان صفعة مدوّية على وجه نتنياهو شخصياً، الذي اعتقد في لحظة من النشوة المبالغ فيها، بعد الانتخابات الخامسة، وما ترتّب عليها من تشكيل ائتلاف حاكم، عُدّ أنه أحد أقوى الائتلافات في تاريخ "إسرائيل"، أنه الملك المتوّج على كرسي الحكم من دون منازع، وأن ما أصاب منافسيه من أحزاب الوسط واليسار من هزيمة مدوّية، لن يُقيم لهم قائمة بعد الآن.
وانطلاقاً من هذا الشعور الزائف بالقوة، والعنجهية المفرطة، والتي ظهر فيها "أبو يائير"، في كثير من خطاباته وطلّاته الإعلامية، فإنه ذهب إلى رفع سقف التحدّي، لكنه هذه المرة مع فريق آخر، هو الفلسطينيون، الذين جرّبهم مرات متعددة فيما سبق، ويعرف جيداً أنهم أسقطوه عن كرسي الحكم في أيار/مايو 2021 بعد معركة "سيف القدس"، وأرغموه على النزول من المنصات أكثر من مرة، على مرأى ومسمع من كل العالم.
إلّا أن الجرعة المعنوية التي تلقّاها نتيجة العودة من جديد إلى سدة الحكم، وتفلّته ولو موقتاً من مجاورة صديقه القديم إيهود أولمرت في السجن، نتيجة قضايا الفساد المرفوعة ضده، قد جعلته يذهب بعيداً من خلال رفع مستوى التغوّل والاعتداء على الفلسطينيين في مدينة القدس المحتلة، والمسجد الأقصى المبارك، وخصوصاً في شهر رمضان المبارك، الذي تبلغ فيه حشود المصلين والمعتكفين ذروتها.
وعلى ما يبدو، ونتيجة خطأ في التقدير من جانب نتنياهو، الذي يُعرف عنه أنه يُنصت على نحو مبالغ فيه إلى تقديرات جهاز "الشاباك"، الذي يسيطر على قسم مهم منه أتباع "التيار الديني الصهيوني المتطرف"، مضافاً إلى ذلك التحريض الذي قد يصل إلى حد الابتزاز، من حلفائه في الائتلاف، وعلى وجه الخصوص بن غفير وسموتريتش، قد ذهب ليضع يده في داخل "عش الدبابير"، معتقداً أنها لن تلدغه، وأن لديه من الوسائل والإمكانات ما يخيفها، ويجعلها تستسلم لرغباته وطموحاته.
إلّا أن حسابات حقل نتنياهو لم توافق حسابات بيدره، ولم تجرِ الرياح كما اشتهت سفنه، بل تحوّلت هذه الرياح، التي كان يعتقد أنها مجرد نسمات جميله ورقيقة، إلى عواصف هوجاء، ضربت مشروعه من كل الجوانب، واسقطت أشرعته ومزّقتها، وجعلته يعاني من أجل الوصول بسفينته المتهالكة إلى بر الأمان.
رسائل من نار:
بيّنت الأحداث الدراماتيكية، التي جرت بعد تغوّل العدو في المسجد الأقصى، وما قام به من اقتحامات واعتداءات ضد المصلّين العزّل، وما مارسته قواته المدجّجة بمختلف أنواع الأسلحة، من عمليات ضرب وسحل بحق كبار السن من الرجال والنساء، ومحاولة إذلال وإهانة للشباب الرائع الذي واجه القوة المفرطة بصدره العاري، بيّنت تلك الأحداث أن ما جرى لن يمر مرور الكرام، وأن هناك شعباً ومقاومة يملكان مروحة واسعة من الخيارات للتصدي للعدوان، والرد عليه، على رغم الفارق الهائل على مستوى الإمكانات لمصلحة العدو، فانتفضت الضفة المحتلة، وهاجمت مجموعات المقاومة فيها كل الحواجز العسكرية، واشتعلت مناطق التماس، وباتت الأوضاع قريبة جداً من حافة انفجار شامل، يعيدنا إلى المشهد الذي سبق انتفاضة الأقصى عام 2000.
ليس هذا فحسب، بل تحركت أيضاً الجماهير الفلسطينية في مدن الداخل المحتل، وشهدت شوارع أم الفحم والناصرة وسخنين وغيرها مواجهات عنيفة، أعادت إلى الأذهان ما جرى في إبّان معركة "سيف القدس" عام 2021. ولم يكن قطاع غزة بعيداً عن قلب المواجهة، فبالإضافة إلى المسيرات الجماهيرية الحاشدة، والمظاهرات قرب الشريط الحدودي الفاصل بين القطاع وأراضينا المحتلة عام 48، قامت المقاومة بإطلاق رشقات من الصواريخ في اتجاه مغتصبات غلاف غزة، وإن كانت هذه العمليات ذات منسوب منخفض نسبياً، سواء على مستوى المدى أو العدد، إلّا أنها كانت واضحة لناحية توجيه رسائل إلى العدو، تفيد بأن ارتفاع منسوب العدوان على القدس المحتلة، سيرفع مباشرة مستوى إطلاق الصواريخ، لتصل إلى مدى أبعد، واهداف أهم.
كل ما جرى من ردود أفعال، كالتي أشرنا إلى جزء منها آنفاً، وصولاً إلى عملية الأغوار النوعية ظهيرة الجمعة، كان متوقعاً لدى متخذ القرار الإسرائيلي، واعتاد عليه في كثير من مراحل الصراع مع الشعب والمقاومة في فلسطين، لكن المفاجأة غير المُتوقعة، والتي وُصفت في "إسرائيل" بالصدمة الكبرى، والصفعة المؤلمة، وأنها كسرت جزءاً مهماً من قواعد الاشتباك المعمول بها منذ أعوام طويلة، كانت إطلاق الصواريخ من جنوبي لبنان في اتجاه مستوطنات الشمال، في عملية لم تتكرر كثيراً خلال الأعوام التي تلت حرب تموز/يوليو 2006، باستثناء بعض العمليات التي جرت في إطار الرد على اعتداءات إسرائيلية سابقة، مثل عملية القصف التي تبناها حزب الله رسمياً في آب/أغسطس 2021، واستهدفت أراضي مفتوحة في محيط مواقع الاحتلال الإسرائيلي في مزارع شبعا بعشرات الصواريخ، رداً على الغارات الإسرائيلية على أراضٍ مفتوحة في منطقتي الجرمق والشواكير.
هذا القصف، الذي قالت المصادر الإسرائيلية إنها لم تكن تملك معلومات مسبّقة بخصوصه، شكّل مفاجأة غير سارّة للعدو، وجعله يتخبط في إطلاق الاتهامات في كل الاتجاهات، ويحاول أن يجد من يحمّله المسؤولية، إلّا أن عدم تبنّي أحد لهذا القصف بصورة واضحة، وعدم تمكّن العدو من الجزم بهوية مُطلقي الصواريخ، على رغم توجيه الاتهام إلى حركة حماس في لبنان، ساهما في حدوث حالة من الإرباك الواضح لدى قادة الاحتلال، وصل في مرحلة ما إلى تناقض علني في المعلومات المرسلة إلى وسائل الإعلام، وهو ما نتج منه ما يمكن تسميته "فقدان السيطرة والتحكّم" في مجريات الأحداث، ووصل إلى التأثير في عقد الجلسة الأمنية التي عقدها "الكابينيت"، والتي تأخّرت أكثر من نصف ساعة عن موعدها المحدد.
وبناءً عليه، يمكن لنا الاعتقاد أن من يقف خلف إطلاق الصواريخ، أراد إرسال حزمة من الرسائل إلى العدو الصهيوني، واختار من أجل ذلك صواريخ ذات مدى قصير، استهدف من خلالها مناطق يبدو أنها دُرست بعناية. ومن هذه الرسائل:
1ـ إن الجهة التي تقف خلف إطلاق الصواريخ، تتمتع بحرية حركة كبيرة في مناطق الجنوب اللبناني، وإن لديها القدرة اللوجستية والعملانية على إطلاق هذا العدد من الصواريخ من دون أن تواجهه أيّ عوائق، وإن الأوضاع الداخلية اللبنانية المتأزّمة، والانقسام الذي يشهده البلد، لن تؤثر سلباً في تحركاتها وخططها، وهذا يُعطي مؤشراً على أن من يقف خلف هذه العملية، على نحو مباشر، او من خلال منح الضوء الأخضر للمنفذين، هو "حزب الله ". وهذا الأمر يضع "إسرائيل" أمام تحدٍّ حقيقي، حاولت الهروب منه من خلال تحميل المسؤولية لجهات أخرى.
2 ـ الزمن الذي كانت فيه "إسرائيل" تمارس كل أشكال العربدة والإجرام، بحق شعوب المنطقة، وفي المقدّمة منها الشعب الفلسطيني، من دون أن تتعرض للمساءلة أو العقاب، انتهى، وإن هناك عدداً من الجهات التي تمتلك إمكان تدفيعها ذلك الثمن.
3 ـ أكد منفذو العملية جاهزية "محور المقاومة"، في كل ساحاته المحلية والإقليمية، واستعداد هذا المحور للذهاب بعيداً في سبيل الدفاع عن أحد مكوّناته الرئيسة، فلسطين، وأن ما كان يُعتقد أنه مجرد مساندة إعلامية ومالية فقط، هو في الحقيقة فعل ميداني مباشر على الأرض، ويمكن له أن يتحوّل عند الحاجة إلى مهدِّد اساسي لمنظومة الأمن الإسرائيلية.
4 ـ إن القضية الفلسطينية، وفي المقدّمة منها مدينة القدس ومسجدها المبارك، هي صاعق تفجير أساسي لكل الأوضاع في المنطقة، وإن أي محاولة لتغيير الواقع الحالي فيها، ولفرض التقسيم، زمانياً ومكانياً، داخل المسجد الأقصى، ستُشعل شرارة حرب دينية واسعة، سيكون العدو الصهيوني الخاسر الأكبر فيها.
5 ـ إن فارق القوة لمصلحة "دولة" الاحتلال، والدعم الهائل الذي تحصل عليه من جهات متعددة، لن يكونا عائقاً أمام اتخاذ قرار المواجهة معها إذا دعت الحاجة، وإن محور لمقاومة بات يمتلك إمكانات تسليحية كبيرة، وقدرات استخبارية ملموسة، تمكّنه من خوض معركة "كسر عظم" مع جيش الاحتلال.
6 ـ إن وحدة الساحات تم تجسيدها واقعاً عملياً في مواجهة الصلف الإسرائيلي. والزمن الذي كانت فيه "إسرائيل" تستفرد بجبهة من دون أخرى، وتستغل النزعات الحزبية والمذهبية لتحييد هذه الجبهة أو تلك، ولّى بغير رجعة. وإن التنسيق العملياتي بين المقاومة في فلسطين، وغرفة عمليات محور المقاومة، في أفضل حالاته، ويعمل وفق نسق مرتفع للغاية.
خاتمة:
على رغم كل ما تقدّم من مؤشرات، تفيد، بما لا يدع مجالاً للشك، بفشل إسرائيلي واضح في مواجهة ما جرى، وبخلل أصاب منظومة القيادة والسيطرة داخل المؤسسات الإسرائيلية ذات الصلة، والذي انعكس بصورة جلية على أداء الجيش الصهيوني في كثير من المراحل، فإن هذا لا يعني أن الأمور انتهت عند هذا الحد. فالتجربة الطويلة مع هذا العدو، ولا سيما في ظل حكومة متطرّفة، يقودها نتنياهو المأزوم، وغلاة المتطرفين أمثال سموتريتش وبن غفير، وسائر أقطاب الائتلاف الحاكم، تفيد بأن هؤلاء "المجانين" يمكن أن يذهبوا بعيداً في ردهم على ما تعرضوا له من "إهانة"، لأن ابتلاع هذه الصفعة، والاكتفاء بالردود الهزيلة التي جرت سواء في قطاع غزة، او جنوبي لبنان، سيعرّضان هذا الفريق لحملة هائلة من الانتقادات، ولا سيما من قوى اليمين، التي رفعت على الدوام شعارات "الموت للعرب"، ودعت وما زالت إلى استخدام القوة المفرطة في مواجهة الشعب الفلسطيني الأعزل والمظلوم.
نحن نعتقد أن المعركة لم تنتهِ بعدُ، وأنه ما زال في جعبة "الإسرائيلي" ما يمكن أن يستخدمه في قادم الأيام، وأن كل ما يعلن عنه في وسائل الإعلام، او ينقله عبر الوسطاء، يمكن أن يكون مجرد خديعة ومكيدة، وأنه في انتظار استكمال جمع المعلومات عن الجهة التي وقفت وراء "غزوة الجليل"، وحينها سيقرر شكل الرد الحقيقي وحجمه.
هذا الحذر في التعامل مع الواقع الحالي، ليس مدعاة إلى الخوف أو القلق، بقدر ما هو دعوة صادقة إلى اتخاذ مزيد من إجراءات الحيطة والحذر، والانتباه الجيد والمبني على تقدير موقف حقيقي وواقعي، يستند إلى معلومات استخبارية وأمنية، وليس إلى المواقف المعلنة من جانب العدو.
لكن، حتى لا نبدو متشائمين أكثر من اللزوم، نعود إلى التأكيد، من جديد، أن هذا الكيان المجرم لم يعد ذاك الوحش المصنوع من فولاذ، ولم يعد ينطبق على جيشه الوصف القائل إنه لا يُهزم، فالتجارب خلال الأعوام الأخيرة أثبتت انه يمكن، بمزيد من التخطيط والتجهيز السليم، هزيمته، ويمكن أيضاً، عبر انسجام مواقف قوى المقاومة، وتضافر جهودها، ووحدة ساحاتها، أن تتغلب عليه، ليس فقط من خلال مراكمة نقاط الانتصار على المدى الطويل، بل من خلال الضربة القاضية، التي ستشكّل نهاية مشروعه في المنطقة، وهو المشروع الذي يُعَدّ رأس حربة الهجمة الاستعمارية الغربية على الشرق الإسلامي.