5 إضرابات مفتوحة عن الطعام خاضها القائد الشيخ خضر عدنان، ينتصر فيها عناده المقدّس بعزيمة الجوع بلا تردّد، في مواجهة سجّان متوتر تقف خلفه دولة مسلّحة بأعرق أجهزة البطش العالمية؛ الشاباك وإدارة السجون والمحكمة العسكرية.
ابتدع خضر تجربة الإضراب الفردي، وإن سبقته إضرابات فردية عديدة، لكنها ظلت بسقف زمني، ولم تحقّق أهدافها إلّا ما تعلّق بتحسين شروط الاعتقال. وسبق لي أن خضت هذه التجربة عقب تحويلي للاعتقال الإداري، عندما أنهيت فترة محكوميتي، ولكنّ إدارة السجن التابعة للجيش، قمعت هذا الإضراب، عبر اللجوء للتغذية القسرية المسماة (الزوندا) من خلال أنبوب يمتد ببطء من الأنف حتى المعدة، بعد تقييد أطراف الجسم كافة، وبتنفيذ طاقم طبي عسكري.
اشتهرت طريقة خضر عدنان في التصدي للاعتقال الإداري، أول مرة سنة 2012، وحظيت وقتها بإجماع شعبي ورسمي، خاصة بعد أن دخل إضرابه الستين يوماً، واقترب فيها من أطول الإضرابات في التاريخ، وهو الإضراب الإيرلندي؛ الذي قضى فيه 10 ثوّار إيرلنديين بعد أن وصل اضرابهم إلى نحو ستين يوماً.
يقارب خضر عدنان، الثمانين يوماً في إضرابه الراهن عن الطعام، وهو يمتنع أيضاً عن الفحوصات الطبية فضلاً عن المدعمات والفيتامينات، بما يبقي الأسير المضرب على قيد الحياة مهما استمر إضرابه. ولكن خضر يرفضها ولا يسمح بتزويده بأيّ نوع من الإبر الطبية، يساعده في ذلك إعلان نقابة الأطباء في الكيان الإسرائيلي عام 2015 رفضها قرار حكومة الاحتلال اللجوء للتغذية القسرية بغية كسر هذا النمط النضالي.
نجح خضر عدنان، وهو قيادي بارز في الجهاد الإسلامي، في كسر اعتقاله الإداري 4 مرات، من خلال إجباره الشاباك على تخفيض فترة الاعتقال إلى مدة قصيرة بسقف غير متجدّد، وانتهج طريقه عشرات الأسرى الإداريين، وغالبيتهم من الجهاد الإسلامي، وكان آخرهم الأسير خليل عواودة، ولكن حكومة الاحتلال نجحت في فبركة لائحة اتهام له خارج الاعتقال الإداري.
والاعتقال الإداري؛ نمط يفتقد للحد الأدنى من المحاكمات العالمية بما فيها المحاكمة العسكرية، كونه بلا تهمة مقدّمة ضد الأسير، إنما هو ملف سريّ لا يطلع عليه هو ولا محاميه، يؤهّل ضابطاً عسكرياً لتمديد اعتقاله حتى 5 سنوات. والجديد الصعب في إضراب خضر الراهن، أنه ضد اعتقاله التعسفي، بعد فبركة مخابرات الاحتلال لائحة اتهام بحقه، تتحدث عن نشاط خضر في فعاليات شعبية.
اعتاد خضر عدنان في مسيرته الكفاحية، على اعتقالات متسلسلة غير متباعدة، تجاوزت العشرة اعتقالات، ولكن المحتل تركه هذه المرة من دون اعتقال لفترة زمنية طويلة نسبياً، بهدف تكوين لائحة اتهام موثّقة باعترافات أسرى آخرين، وهو ما جعل النيابة العسكرية تطلب له محكومية قد تصل إلى 50 شهراً.
أعلن خضر إضرابه الراهن من لحظة اعتقاله من بيته عقب تفجير بابه وإفزاع أطفاله، واغترّ المحتل أنه أعدّ مفاجأة لخضر بلائحة اتهام طويلة، ولكن خضر كان قد اتخذ قراره بلا رجعة، فهو اليوم يغامر بالإضراب ضد التعسّف باعتقاله، وتتسرّب أخبار الأهالي أن إدارة السجون قدّمت عرضاً للهيئة القيادية لأسرى الجهاد ممثّلة بالأسير أنس جرادات؛ بصفقة يُحكم فيها على خضر فترة لا تتجاوز 8 أشهر، ولكن خضر ما زال يرفض.
يضع خضر عدنان سجّانه في حالة توتر وترقّب، عبر جوعه الممتدّ بلا تردّد، فالمحتل يتحمّل مسؤولية حياة الأسير نظراً للقوانين التي يفاخر فيها المحتل أمام المؤسسات الحقوقية، باعتباره يحمل شرعية إنسانية في معاملة الأسرى، في ظل عقدة الشرعية التي يحاول الكيان العبري تعويضها عبر هذه الأقنعة الزائفة، التي ينتزعها خضر تباعاً منذ نزع شرعية الاعتقال الإداري بشكل غير مسبوق، فهو اليوم بهذا الإضراب يضع سيف جوعه فوق رقبة الجلّاد، فهل تراه ينجح؟
نجح خضر في إضراباته السابقة في تسليط الضوء على وحشية الاعتقال الإداري، بما فضح المحتل على نطاق واسع، ودفع غيره للاقتداء بنهجه، ولكن هذا النمط من الاعتقال لم يتوقّف، وليس من المتوقّع أن يتوقف نمط الاعتقال التعسفي، المدعوم باعترافات آخرين تحت التعذيب، فهي أدوات ملازمة للمحتل. ولكن عناد خضر كفيل بهزّها وتسليط الضوء على هشاشتها، وإن بثمن باهظ يبعث على الدهشة.
توتر السجّان والأجهزة التي تقف خلفه، في مواجهة نمط الإضراب الفردي الذي انتهجه خضر، يدلّل عليه تسخيره الوساطات وتقديمه عروضاً تنازلية، بل ولجوءه إلى مساعدة الوسيط المصري، خاصة مع صدور تهديدات من المقاومة بالتدخّل. وهذا المحتل ابتداء مرهق لمجرد تمرّد المضرب على قوانين خضوعه لنمط الاعتقال، وقد اعتاد أن يمرّر أنماط اعتقاله سواء الإداري منها أو التعسفي، بشكل سلس على مدى عقود.
عندما يواجه المحتل جوع خضر، فهو يتحسّس مع زفرات هذا الجوع انعدام شرعيّته أولاً، ثم هو يفزع ثانياً من تحوّل خضر وما يمثّل إلى أيقونة وقدوة تتوهّج ليقبل عليها غيره، في مواجهة نمطية الخضوع التي نجح بتمريرها منذ احتلاله فلسطين.
وفق أيّ نوع من الحسابات، فإن إضراب خضر مكلف من كل النواحي، وطول أمد الإضراب يتسبّب بمعاناة الأسير الشديدة، مع معاناة ذويه، خاصة مع احتمال استشهاده، وسبق لخمسة أسرى فلسطينيين أن استشهدوا، بين سنتيّ 1970 و1992 في إضرابات جماعية عن الطعام، أولهم عبد القادر أبو الفحم خلال إضراب عسقلان، ثم راسم حلاوة وعلي الجعفري خلال إضراب نفحة، ومحمود فريتخ خلال إضراب جنيد، وحسين عبيدات خلال إضراب عسقلان.
هذه المعاناة مع الخطر على حياة الأسير، خاصة عندما يتعلق الأمر بفترة اعتقال محدودة، دفعت قطاعات من الأسرى والحقوقيين إلى معارضة هذا النوع من الإضراب، رأفة بالأسير وذويه، وتشتد هذه المعارضة في مواجهة اعتقال مدعوم بلائحة اتهام. ولكن خضر ومن يناصر هذا الخط النضالي، يرون أن الجدوى متحقّقة منه ابتداء باعتباره مراغمة للمحتل، وهذا شبيه بقوله تعالى (وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ).
ويأتي هذا الإضراب منازلة للمحتل في عقر قوته بما يكشف زيف قوانينه، إضافة إلى نجاح هذه الإضرابات في تخفيض فترة الاعتقال، رغم قسوتها على المضرب وذويه، وهو يحترق فيها بلحمه وأعصابه، ليذكّر العالم بمعاناة الأسرى، وهو ما يدفع الجميع في النهاية إلى الوقوف خلف خضر في اختياره، وهو يقف شامخاً ليمثّل شعبه في مواجهة كيان متسلّح بكلّ أدوات الوحشية، ولكنه عاجز عن كسر إرادة لا تعرف المستحيل.