الرد المحدود على قطاع غزة عكس هواجس المؤسسة الاسرائيلية من وقوع رد واسع مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية مما يؤدي إلى حرب شاملة، فهذه الأحداث أظهرت بأن الطرف الإسرائيلي الذى كان يتغنى بالجهوزية لحرب متعددة الجبهات عبر المناورات والخطط والمستمرة وعلى رأسها خطة" تنوفا" ومناورات عربات النار، وأن ما كان يسوقه ويروج له من حين لآخر عن تدريبات مستمرة لاجتياح واحتلال جنوب لبنان وغزة في حروب قصيرة ومركزة، وأن لديهم القدرة على ضرب الجبهات الثلاث في آن واحد، وأنه قادر على حسم معظم الأهداف وتنفيذها بضربات جوية مجتمعة وفى آن واحد وعلى كل الجبهات في الدقائق الأولى للعملية، وما كان يرافق تلك الترويجات من التهديد والاستعلاء الإعلامي المفرط كما حصل سابقًا مع حزب الله في قضية منصة "كاريش"، والذى جاء على لسان رئيس أركان الاحتلال أفيف كوخافى حينها عندما وجه رسالة تهديد إلى اللبنانين: "أنا أنصحكم أن تغادروا لبنان حتى قبل إطلاق الرصاصة الأولى في الحرب، فأنتم لم يسبق لكم أن رأيتم هجومًا من قبل كمثل الذى سيُشن عليكم، من خلال قوة النار الذى سيستخدمه جيشنا ضدكم في الحرب المقبلة في لبنان".
"غانتس" أيضًا -والذى كان يشغل حينها وزير الحرب- هدد قائلاً: "سيدفع اللبنانيون ثمنًا باهظاً مع اندلاع المعركة من الجهة الشمالية". ومؤخراً هدد رئيس الأركان الجديد هرتسى هاليفى" بالرد على عملية إطلاق الصواريخ من الأراضي اللبنانية.
لكن السؤال هنا!، أين جدوى كل هذه التهديدات على أرض الواقع ؟؟:
والحقيقة أن هذه التهديدات باتت لا جدوى لها، فالأحداث تظهر بأن إسرائيل هي التي انصاعت لكل التهديدات التي صدرت من لبنان وغزة سواء فيما يتعلق بـ"كاريش" أو فيما يتعلق بعملية إطلاق الصواريخ من لبنان، أو فيما يتعلق بغزة، وإن رد إسرائيل الجزئي يشى بأن تهديدات غزة بفتح حرب واسعة ضده قد ردعه بشكل كامل.
فعلى ما يبدو أن الحدث الأمني الكبير الذى تمثل بقرار بإطلاق الصواريخ من قبل محور المقاومة عبر الحدود اللبنانية كانت خطوة جريئة لم يتوقعها العدو، وكشفت عن مدى الضعف في جهوزية وقدرة العدو في مواجهة محور المقاومة وجبهاته المتعددة، ويبدو أنه قلب لديه كل الحسابات الأمنية والعسكرية، وخلط لديه الأوراق والخطط والترتيبات، وصعب عليه فرص الرد العسكري ضمن هامش مريح، كما أنه صعب عليه أيضًا مهمة إعادة الردع الذى تآكل.
لقد شكل محور المقاومة حصارًا مطبقاً على العدو، مما دفعه إلى مزيد من التراجع والانكفاء، وضيَّق عليه في خياراته وردوده العسكرية، وخصوصًا بعد حدث لبنان، وهذا الأمر لم يكن عبثًا، وإنما كان خيارًا مدروسًا بعناية من قبل محور المقاومة، وهذا يكشف أن إسرائيل لم تتجرأ على الإقدام على أي خطوة تستفز حزب الله تجنباً لرده، وبالتالي قد ينجر الكيان إلى حرب مفتوحة وموسعة معه، الأمر الذى دفعه لتنحية هذا الخيار، والاكتفاء بالصخب والتهديد الإعلامي الفارغ على حساب معالجة الحدث بالرد العملي الميداني، مما جعل من رده المحدود غير متوافق مع حجم العملية والخطر الكبير الذى شكلته على الكيان، وهذا ما يؤكد عجز هذا الكيان عن المواجهة الشاملة متعددة الجبهات، والذى بررته قيادة الاحتلال بأن اسرائيل ليس لديها مصلحة حالياً بالانجرار إلى حرب موسعة وشاملة.
هذا ربما ما أوصت به الدوائر الأمنية والعسكرية على لسان رئيس الأركان الإسرائيلي: "هرتسى هاليفى" بعدم التسرع بالرد، وتجنب دخول مرحلة صدام كبيرة مع حزب الله، وأن من مصلحة إسرائيل تجنب الصدام معه، والاكتفاء في هذه المرحلة بالرد على مواقع تخص المقاومة في غزة، وفى نفس الوقت لا يتم تجاوز قواعد الاشتباك فيها.
هذه التوصيات التي خرجت من المؤسسة الأمنية والعسكرية بالتروي والرجوع خطوات إلى الوراء لم يقصد به إلغاء الرد على الحدث الأمني من الحدود اللبنانية، والذي يعتبره كيان الاحتلال خطيراً جدًا، وهو أمر لن يقبل به هذا الكيان؛ لذلك سيضطر مرغمًا وليس بإرادته للبحث عن بدائل أمنية وعسكرية تجنبه المعارك المفتوحة، لذلك أمام هذا التعقيد في الحسابات الأمنية والعسكرية والتحديات التي فرضتها المقاومة لجأ الاحتلال إلى استراتيجية جديدة، وهى الرد في الوقت المناسب والمكان المناسب، كالاغتيالات لشخصيات من محور المقاومة دون أن يكون هناك بصمة تدل على مسؤوليته، إلى جانب التهديد والضجيج الإعلامي، وعمليات جزئية على مستوى الضفة الغربية تشعره بشعور الانتصار المزيف، وهذه الاستراتيجية ستمنحه فرصة الهامش الزمني، والعمل في كل الساحات، مما يتيح له الرد الذى يجنبه الدخول في حرب مفتوحة،
الخلاصة: إن جهود المقاومة في الالتفاف حول عنق الكيان ومحاصرته وتطوير الأداء والقدرات والتكتيك التخطيطي من كل الجبهات القتالية المقاومة، واستعداده الواضح للمواجهة الشاملة، كل هذا جعل العدو في حالة تراجع وانكفاء، وبات عاجزً عن المواجهة.