يصرّ المحتل الإسرائيلي على استهداف الجهاد الإسلامي، وخاصة منذ سنتين مضتا، بشكل حصري لافت، وهو التنظيم الذي اختطّ لنفسه دور رأس الحربة منذ أسّسه المفكّر فتحي الشقاقي، ليكون أوّل أمين عام لفصيل فلسطيني يتم اغتياله، بعد تأسيسه للتنظيم بعقد من الزمن، وهو طبيب العيون والمفكّر الذي صاغ رؤية فكرية بأعمدة ثلاثة؛ مركزية فلسطين في الصراع مع الغرب، ومحورية الفكر الإسلامي في هذا الصراع، والوحدة الإسلامية المذهبية والحزبية من خلال التعدّد.
نجح المحتل الإسرائيلي في العام الماضي، باغتيال اثنين من أبرز قادة سرايا القدس، وهو ما تكرّر في الهجوم الغادر على غزة صبيحة هذه الثلاثاء، باغتيال ثلاثة من أبرز قادة السرايا، بعد أسبوع من اغتياله لأيقونة الجهاد الإسلامي خضر عدنان، وهو جائع في محبسه مضرب عن الطعام حتى النفس الأخير.
يصرّ المحتل في هجومه الغادر هذا، على اعتبار حربه موجّهة إلى الجهاد الإسلامي دون غيره، ليكرّر تجربته الناجحة في هجومه من العام الماضي، بتحييد حماس عن المعركة، في محاولة محكومة بالفشل غالباً، بعد جسر الفجوة التي اتحدت عبرها ساحات الوطن والإقليم المجاور في خطوة أولى، وإن محدودة ثأراً لقمع المعتكفين في الأقصى، وهو ما تكرّر مع غزة بوحدة مقاومتها عقب اغتيال الشيخ خضر عدنان.
لماذا يعمد المحتل إلى حصر معركته ضد الجهاد الإسلامي مجدّداً، ولماذا تتلبّس هذه العقيدة التلمودية في عقل الوحش العبري ضد حركة الجهاد بالذات؟
تعتبر حركة الجهاد الإسلامي الفصيل الثالث في الساحة الفلسطينية من حيث الحجم التنظيمي والتأييد الشعبي، وقد نأت بنفسها عن الانقسام السياسي الأمني الذي تحكم من خلاله حركة فتح الضفة الغربية المحتلة، وتحكم من خلاله حركة حماس قطاع غزة المحاصر، وقد اختطت حركة الجهاد لنفسها رؤية عملية ميدانية، عمادها على مشاغلة المحتل الإسرائيلي بشكل حصريّ، بما يحرم معه أدنى صراع داخليّ.
يكتنز العقل الإسرائيلي الجمعي باعتبار العربيّ الميت هو العربيّ الجيّد، فهو صراع وجوديّ مع الآخر غير اليهودي، هذا من حيث المبدأ لم يتغيّر ولن يتغيّر، وكل فلسطيني عدو بالمنطق الإسرائيلي، بغض النظر عن الانتماء الحزبي.
وهذا ما أفرزه صندوق الناخب الإسرائيلي بشكل صريح في الانتخابات الأخيرة، باختياره غلاة اليمين المتطرف، الذين يرون في السلطة الفلسطينية عدواً وشيكاً ينبغي القضاء عليه، رغم ما تقدّمه السلطة من خدمات أمنية آثمة.
لكن أولوية المواجهة الميدانية في البرنامج الأمني الإسرائيلي، وبتغطية سياسية كاملة، استقرّت أخيراً على أفضلية الصراع المفتوح ضد الجهاد الإسلامي لاعتبارات عديدة، هذه بعضها:
أولاً؛ المواجهة التي قادها الجهاد قبل أسبوع عبر الغرفة المشتركة، في الرد على اغتيال الشيخ خضر عدنان، وهو القائد البارز في الجهاد، وهي مواجهة رغم سقفها الجغرافي المحدود، إلا أنها دفعت الرأي العام العبري لأن يتساءل عن قدرة الجهاد الإسلامي في تغيير قواعد الاشتباك لصالحه، من جهة، ومن جهة أخرى قدرته على خلق مظلة شرعية لتنفيذ رؤيته النظرية للصراع، وهو ما حصل أيضاً في شمال الضفة وتحديداً في مخيم جنين.
ثانياً: نجاح الجهاد بتغيير المزاج الشعبي الفلسطيني في السنوات الأخيرة، من مزاج ملتبس تحت وطأة الانقسام بين الضفة وغزة، مع نجاح السلطة في كبح جماح المقاومة في الضفة، في ظل إشغال الفلسطينيين بالهمّ الاقتصادي اليومي، لتأتي حركة الجهاد وعبر أصداء نفق الحرية من سجن جلبوع وما تبعه من إطلاق كتيبة جنين، وما تمخّض عنهما من تطورات ميدانية شارك فيها كل الطيف الفلسطيني، جعلت نصف الجيش الإسرائيلي النظامي مستنفراً لمواجهة اشتعال شمال الضفة، مع تردداتها في القدس وأريحا وكل مناطق الضفة مع الداخل المحتل.
ثالثاً: تعميد الجهاد لأولى مداميك وحدة الساحات على مستوى الوطن، ثم المحور برمّته، حيث اضطر لخوض معركة آب المنصرم لوحده في غزة، عقب تدحرج الأحداث من جنين، وهي الوحدة التي تكرّست مبدئياً وميدانياً في شهر رمضان الماضي على مستوى المحور، بدور إيجابيّ رئيس لحماس.
وهو دور جاء تبعاً للأرضية التي دشنّتها حركة الجهاد سواء بمحاولة التناغم الميداني بين غزة والضفة، أو بمشاركتها الفاعلة في كل مواجهة مع المحتل، بروح التلقائية الفطرية مع كل هيئة أو فزعة تجدها متطوّعة من دون حسابات سياسية أو خارجية، وهو ما يجعلها حاضرة في الميدان على الدوام.
رابعاً: ثبات الجهاد الجوهريّ في محور المقاومة، في وقت يخوض المحتل حرباً ما بين حربين، أو هي الحرب الهجينة مع المحور بقيادة إيران، واعتباره مشروع إيران النووي أو الصاروخي أو التمدّد الإقليمي، بمثابة تهديد وجوديّ لكيانه، بما يجعله متحفّزاً ضد الجهاد بشكل خاص، نظراً لمكانتها الثابتة في حلقات هذا المحور، وهي مكانة آخذة بالتمدد خارج لبنان وسوريا إلى العراق وربما اليمن، وهو ما تكلل بزيارة قائد الجهاد الحاج زياد نخالة للعراق من زاوية دعم خط المقاومة.
أخيراً؛ جذرية الجهاد الإسلامي في رؤيته للصراع مع الإسرائيلي من الناحيتين النظرية والعملية، فهو لا يرى بالعدو الإسرائيلي عدوّاً أول، بل يراه عدوّه الوحيد، ولا يعتبر فلسطين قضيته الأولى، ولكنها قضيته المركزية، وتبعاً لذلك حافظ على بوصلة الصراع الميداني ضد هذا العدو الأزلي، ولم يتعاط مع أيٍّ من الحلول أو المبادرات السياسية، وهو ينظر للكيان الإسرائيلي باعتباره مستوطنة يجب أن تزول، نظرة عقائدية لا مواربة فيها.
تقف المنطقة برمّتها، وخاصة الكيان العبري، على مفترق طرق، بعد الجريمة الوحشية باغتيال قادة الجهاد مع ذويهم وجيرانهم، في ظل توعّد المقاومة، وتحفّز الجهاد، لردّ مزلزل، وإنْ كان مدروساً، ولكنه قطعاً بإيقاع طبيعة الجريمة ومدى وحشيّتها، وهو ردّ ربما تنضم إليه ساحات الضفة والداخل والإقليم، وإن بسقف محدود، بما يفرض على الجميع مسؤولية شرعية وأخلاقية في كبح جماح التغوّل العبري، وقد داس على كل أشكال الوساطات، بعد أن استغلّها في جريمته الغادرة.