أحسنت قوى المقاومة الفلسطينية، وفي المقدمة منها سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، إذ ضبطت جأشها، وكظمت غيظها، وأخَّرت ردها، وأحكمت تصريحاتها، وامتنعت عن القيام بردة فعلٍ آنيةٍ ومباشرةٍ، كان من شأنها لو تمت أن تريح العدو وتطمئنه، وتهدئ من روع المستوطنين الهاربين من كابوس رد المقاومة، التي تعلم أنه لا محالة قادمٌ، وأن تنهي استنفار الجيش وكبار ضباطه، وتعيدهم إلى وحداتهم وثكناتهم، وتسرح الجنود والضباط الاحتياط، والطيارين والخبراء، الذين استدعوا على عجل، وطُلب منهم الالتحاق بوحداتهم والاستعداد لكل طارئٍ ومفاجئٍ.
لكن قوى المقاومة الفلسطينية التي فَعَّلت غرفة العمليات المشتركة، وسبقت بردها المشترك على جريمة قتل الأسير خضر عدنان، الذي جاء منظماً ومنسقاً، وموحداً وموجهاً، ومؤقتاً بزمانٍ ومحدداً بإطارٍ، ومضبوطاً بحدودٍ وملتزماً بسياسةٍ، آثرت التروي والانتظار، وعدم التنفيس عن غضبها بردٍ فاترٍ أو عمليةٍ قاصرةٍ، وقررت أن تنتهي من مراسم التشييع والدفن، وربما تصبر أكثر لتمر أيام الحزن ويتجاوز الفلسطينيون الألم، ويبرأ الجرحى ويستعيد الناس نشاطهم، قبل أن تحسم قرارها وتعزم أمرها وتحدد هدفها، وتنفذ وعيدها بردٍ مؤلمٍ وعمليةٍ موجعة، تكون رسالة إلى العدو واضحةً وصريحةً، ممهورةً بالدم ومدموغة ببصمة الشعب الثائر والمقاومة الصادقة، أن الفلسطينيين ما عادوا يصمتون على الظلم، أو يسكتون على الضيم، أو يتخلون عن حق الرد.
يعلم العدو الصهيوني عِظمَ ما ارتكب، وفداحة الجريمة التي اقترف، وحجم المجزرة التي نفذ، فقد ارتكب جريمةً كبيرةً ومجزرةً مروعة يصعب السكوت عليها أو غض الطرف عنها وعدم الرد عليها، فقد أغارت أكثر من أربعين طائرة حربية على ثلاثة أهدافٍ فلسطينية في جنوب وشمال قطاع غزة، وقتلت ثلاثة عشر فلسطينياً، منهم أربعة أطفال وخمسة نساء، إضافةً إلى ثلاثة من كبار قادة حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، ودمرت بيوتهم ومساكنهم، وبيوت جيرانهم وأهل منطقتهم، الذين استشهد بعضهم وأصيب كثيرون آخرون منهم.
كما يدرك يقيناً أن المقاومة الفلسطينية لن تدع جريمته تمر دون ردٍ وعقابٍ، فقد اعتادت أن ترد على كل عدوان، وأن تثأر منه بعد كل جريمة، وألا تتردد في قصفه أو مواجهته، لعلمها أنه يطغى ويتمادى، ويمعن ويثخن، إلا أن يرى رداً يردعه وعملاً يوجعه وألماً يزجره، وقد استطاعت المقاومة بوعيها وجديتها، ووحدتها وصدقها، أن تفرض عليه معادلاتٍ جديدة، وأن تلزمه باتفاقياتٍ لا ترضيه، وتفاهماتٍ لا تفيده، ولأنه فقد القوة والتفوق، وخسر الردع والانتصار، فقد بات ملزماً أن يخضع للمقاومة، وأن ينزل عند شروطها ويقبل بمحدداتها، ولعل قبوله الدائم بالتهدئة، وسؤاله الوسطاء للتعجيل بها، لهو أكبر دليلٍ على عجزه عن مواجهة المقاومة.
قد لا تختلف هذه الجريمة النكراء التي ارتكبها العدو الإسرائيلي بحق شعبنا الفلسطيني عن أي جريمةٍ أخرى سبقت، فقد سبق له أن اغتال قادةً كباراً، واستهدف نشطاء ومقاومين، وقصف مقاراً ومراكز تدريب ومعامل متفجرات ومصانع ومخازن أسلحة وذخيرة، وغير ذلك من الأهداف التي اعتاد على قصفها، ولكنه استهدف هذه المرة مساكن مدنية وبيوتاً أهليةً آمنةً، وقصفها في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل وأهلها نيامٌ، ودمرها على رؤوس قاطنيها، فقتل الأطفال والنساء إلى جانب القادة والرجال.
لهذا فإن رد المقاومة قادمٌ لا محالة، وإن تأخر فإنه سيأتي قوياً مدوياً، ومفاجئاً صادماً، ومختلفاً عما سبق ومغايراً لما اعتاد عليه العدو، وسيفرح به الفلسطينيون وسيسيء وجه الأعداء وسيؤلمهم أكثر، وسيصيب وعيهم قبل أجسادهم، وعقولهم قبل مدنهم، وإحساسهم قبل مساكنهم، ولعل في تأخيره الكثير من الخير، فقد يجعل حياتهم صعبةً، وانتظارهم مؤرقاً، وترقبهم مضنياً، وقد شاهدنا الآلاف منهم يهربون من مدن ومستوطنات الغلاف حتى أربعين كيلو متراً، ويلجأون إلى الوسط والشمال، ظانين أن سينجون بأنفسهم، وأن المقاومة لن تهددهم، وأن صواريخها لن تطالهم، وأنهم سيكونون في مأمنٍ من أي خطر، وسيعودون بعد الرد إلى بيوتهم ومستوطناتهم، وسيستأنفون عملهم ودراستهم وحياتهم العادية.
يظن العدو أن رد المقاومة القادم سيكون مشابهاً لما عرفه، وسيطال المناطق التي أخلاها، وسيكون محدوداً ومضبوطاً، ومدروساً ومقيداً، وأنه لن يغير قواعد الاشتباك ومعادلات الصراع، وأنه سيكون قادراً على امتصاصها وتحمل نتائجها، وما علم أن المقاومة التي استعدت وصمتت، وأن الشعب الذي احتمل وصبر، قد قرروا الرد بعنفٍ يوازي عنفهم ويفوقه، وبقوةٍ تقهر قوتهم وتفلها، وأنهم جادين في تهديدهم، وصادقين في وعدهم، وأن ردهم سيباغت العدو في كل مكانٍ، وسينال منهم من حيث لم يحتسبوا، وسيصل إليهم من حيث لا يتوقعون، فاللهم لا تخيب فراستنا في مقاومتنا، واحفظنا وشعبنا، ويسر لنا رداً يرضينا، وثأراً من عدونا يشفينا.