كتبت/ أمل الحَجْار
بخفةِ ظلهِ وضحكتهِ التي لا تفارق مُحَيّاهُ في موضع الابتسامة؛ يقول الشهيد المجاهد القائد طارق عز الدين لصديقه قبل استشهاده بأيام قليلة: "رامز.. لما استشهد وين بدكم تدفنوني"؟، ولأول مرة يغضب صديقه وكأنه أحسَّ الآخر بأنَّ موعدَ رحيلهِ قد حان فعلياً.
إرهاصات الشهادة
كان الشهيد القائد طارق عز الدين (أبو محمد) في آخر أيامه كنحلة دؤوبة لا تتوقف عن العطاء، يسابق الزمن بعمله المستمر اللامتناهي في العطاء لوطنه وأبناء شعبه، وكأنه يريد أن يقدم، ويقدم، ويقدم أكثر مما يستطيع قبل أن تطاله يد الغدر الصهيونية ويرتقي شهيداً.
أما قمري (علي) ذا الثمانية أعوام فيسأل أمه قبل استشهاده بيومين وقد فاق سؤاله عمره: "ماما.. الإنسان عندما يستشهد يأكله الدود"؟ لتجيبه أمه (أم محمد): "لا يا أمي، الشهيد لا ينهش جسد الشهيد الدود، لأن الأرض لا تأكل أجساد الشهداء والصالحين، كرامة من الله لهم".
(أبو محمد) كان قبل استشهاده مريضاً بـ(لفحة هواء)، وكأن الله كشف قبل بيوم واحد من الاستهداف عن طفله (علي) الحُجب باقتراب موعد أجل والده أيضا، وينطقه الله بكلمات عن والده بلهجته الضفاوية التي كنت أحبها منه: "تيبكى يعيش"، أي إذا بقي على قيد الحياة.
(علي) القمر الهادئ المنير، كان في آخر أيامه على غير عادته، كفراشة تحلق هنا وهناك بين حقول الفصل، ولكن كانت مدرسة الفصل تراقبه دون أن تمنعه.
الليلة الظلماء
أما الأميرة (ميار) ذات العشرة أعوام، والعيون العسلية والشعر الحرير المُنسدل الذي يتهادى على ظهرها، كانت في آخر يوم لها تجلس في قاعة الفصل ووصيفاتها من فراشات صفِها ومعلمتها يداعبنها ويلعبن بشعرها، وكأنها عروس يجهَزنها للجنة نعم إلى الجنة، ففي ليلة اليوم التاسع من مايو 2023م، شعرت (أم محمد) بتعب وإرهاق فخلدت للنوم برفقة طفلها عز الدين (20 شهراً)، لتفزع من مضجعها الآمن في تمام الساعة الثانية من فجر هذا اليوم على كابوس يعجز الإنسان عن وصفه من شدة هول المشهد، فلا تعرف ماذا حدث؟ وماذا جرى؟ وأين هي؟ ومن فعل بها هذا؟، والكثير الكثير من الأسئلة التي جالت بخاطرها للحظات، ثم أخدت تنادي : "طارق.. حمود.. ميار.. علي"، لكن للأسف لا أحد يجيب، فضغطت على نفسها وتحدت وجعها وإصابتها بالرضوض جراء القضف الغادر، وأخذت تتحسس شيئا فشيئا طريقها للنجاة برفقة طفلها ابن السنة والثمانية شهور؛ حيث المكان في ظلام دامس، والأرض وعرة محفوفة بالأنقاض والمخاطر، وأخذت تنزل شيئا فشيئا ولن أقول درجة درجة لأن الدرج الذي نزلت منه ليس له معالم الصعود والنزول، وكان عناية الله تحفها وطفلها إلى أن وصلت باب العمارة بسلام، ووقفت بوجهها المخطوف الذي تصفى الدم عنه من هول ما رأت، وبقلبها المنفطر على فلذتي كبدها تترقب خروجهما من هذا الكابوس، ولعل أحد يأتيها بخبر يثلج قلبها بخبر عنهما، إلى أن مهدنا لها خبر استشهادهما، فكان صبرها وحمدها وتوحيدها وتسبيحها ورضاها بما قسَّم الله لها حاضراً، قائلة: "لقد كانا حبيبا قلبه، وكان حبيب قلبهما، لقد كانا روحه التي يغدو ويعود بها فشاء لهذه الروح (ميار وعلي) أن تغدوا مع روحه سوياً، ويحلقا سوياً، وترك محمد سنداً وعز الدين سنداً لأمهم يواسوها ويهونون ويخففون عليها علَّهما ينسياها بعض الشيء؛ الكابوس الذي خطف منها أحبتها، متمنية أن يكون الذي عاشته في تلك الليلة الظلماء كابوساً تستفيق منه على خير وكأن شيء لم يحدث، فحبيبها طارق جنبها، ومهجة قلبيها حوليها يلعبان ويلهوان".
صبر ملكة الحور
والله يا (أُم محمد) لقد فزت بالامتحان، عندما استقبلت خبر استشهاد حبيب القلب والروح أبا محمد، وعندما استقبلت خبر استشهاد فلذتي كبدك (ميار وعلي)، وعندما ودعتيهم بكامل الصبر وأنت توزعي القُبلات والدعوات عليهم، وبلسانك الرطب بذكر الله دون أن تلجَي أو تفجري أو تصرخي.. هنيئا لك يا ملكة حور العين تاج الوقار الذي سيلبسك إياه أبو محمد وميار وعلي، هنيئا لك لقب (زوجة الشهيد القائد المجاهد طارق عز الدين) قاهر الأعداء ومحرض الثوَار، ومزلزل الأركان.
لقد ذاقت ملكة الحور العين (أم محمد) ألم الحرمان والمعاناة منذ اعتقال سندها وقرة عينها زوجها أبو محمد، جميلة في السنة الثانية من عمرها ومحمد في الشهر الثالث من عمره، لتتواصل المعاناة بتغريبها عن أهلها وأحبتها في قرية عرابة بجنين البطولة والفداء، لترافق أبو محمد في رحلة الإبعاد إلى غزة، وتنتهي رحلتها معه بألم الفراق لأحب الناس وأعز الناس على قلبها وروحها "طارق.. ميار.. علي"
لقد حطم العملاء وطائرات الغدر الإسرائيلي يا (أم محمد أحلامك) وآمالك وفطر قلبك ولكن، بقيتِ ثابتة راسخة على دينك وإيمانك.. رضي عنك الله ملكتي وأرضاكي، وربط على قلبك وقلب ابنتك جميلة وابنك محمد بالصبر والإيمان.