كتب: عبد الباري عطوان
أثارت المُناورات العسكريّة التي أجرتها قوّات “حزب الله” البريّة في جنوب لبنان قرب الحُدود الشماليّة لفِلسطين المحتلّة، حالةً من القلق غير مسبوقة في صُفوف دولة الاحتِلال ومُؤسّستها العسكريّة على وجه الخُصوص، ليس لأنّها الأضخم من نوعها، والأكثر تنظيمًا، وإنّما لأنها كشفت أيضًا عن قُدرات عسكريّة مُتقدّمة جدًّا، خاصّةً في ميدان الحُروب البريّة.
الجِنرال اهارون حليفا قائد المُخابرات العسكريّة قال في تصريحاتٍ أدلى بها في مُؤتمر هرتسيليا الأمنيّ السنويّ نقلتها صُحف إسرائيليّة من بينها “يديعوت أحرونوت” أن “حزب الله” ومثلما اتّضح من هذه المُناورات، يُخطّط لإرسال قوّات خاصّة إلى مُستوطنات الجليل وتنفيذ عمليّات أسْر للجُنود، حيث جرى في المُناورات الأخيرة استِخدامه طائرات مُسيّرة، وسِلاح “راكبي الدرّاجات الناريّة” وأن الحزب بات يُخطّط للانتِقال من المُدافع عن لبنان إلى فاتح الجليل، وأن رئيسه حسن نصر الله يقترب من ارتكاب خطأ قد يُؤدّي بالمِنطقة إلى حربٍ كُبرى”.
***
كان لافتًا في هذه المُناورات عدم استِخدام سِلاح الصّواريخ الدّقيقة، والتركيز فقط على الجانب البرّي، واقتحام الحُدود، ممّا يعني مُحاولة ضرب دولة الاحتِلال في خاصِرتها “الرّخوة”، أي سِلاحها البرّي، أضعف أسلحتها، ممّا يعكس وجود عُقول عسكريّة استراتيجيّة جبّارة لديه، تُدير غُرفة عمليّات يملك جِنرالاتها صُورةً دقيقةً عن مناطق الضّعف والقُوّة لدى الجيش الإسرائيلي.
القول بأنّ “حزب الله” يُخطّط للانتقال من الدّفاع إلى الهُجوم، يتمحور حول المُشاركة الأبرز لـ”قوّات الرضوان” التي اكتسبت قُدرات بريّة عملياتيّة هائلة، ومُتقدّمة جدًّا، أثناء مُشاركتها في الحرب السوريّة، وانخِراطها في معاركٍ شرسةٍ جدًّا مع الجماعات المُسلّحة المدعومة أمريكيًّا وعربيًّا.
كتيبة “الرضوان” هذه ربّما تكون رأس الحربة في الهُجوم البرّي لاقتِحام الحُدود الشماليّة للجليل، ليس لخطف جُنود وأخذهم أسْرى، وإنّما أيضًا لتحرير أراضٍ مُحتلّة، والتّمركز فيها، مثلما قال لنا مصدر لبناني موثوق، ومُقرّب من قِيادة المُقاومة.
المصدر نفسه ذكّرنا أيضًا بـ”كتائب أحرار الجليل” الفِلسطينيّة النخبويّة التي جرى اختِيار “حزب الله” كوادرها القتاليّة من جميع الفصائل في محور المُقاومة، وتدريبها في مُعسكرات في الجنوب اللبناني لتكون جنبًا إلى جنبٍ مع كتائب الرضوان (نسبةً إلى الشّهيد عماد مغنية) في أيّ هُجومٍ لتحرير الجليل.
كان لافتًا أن ثلاثة من الجِنرالات الإسرائيليين الكِبار الذين تحدّثوا في مُؤتمر هرتسيليا الأمنيّ اليوم الثلاثاء تناولوا في كلماتهم هذا الخطر الذي تُشكّله مُناورات “حزب الله” التي جاءت في إطار تحرّك إيراني عسكري ربّما باتَ وشيكًا، وبعد النّجاحات السياسيّة الإيرانيّة في المِنطقة، وأبرزها الاتّفاق السعودي- الإيراني، وعودة العلاقات مع مُعظم دُول الخليج وربّما مِصر أيضًا في المُستقبل المنظور.
الجِنرال هرتسي هاليفي رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي أكّد في كلمته أمام المُؤتمر المذكور على عزم “إسرائيل توجيه ضربة عسكريّة إلى إيران وقال “لدينا القُدرة على ضربها” وقال “لسنا غير مُبالين لما تُحاول إيران بناءه من حولنا” في إشارةٍ واضحةٍ إلى “حزب الله”، وأضاف “إيران حقّقت تقدّمًا في تخصيب اليورانيوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى لبناء قُدرات نوويّة”، وأضاف “هُناك تطوّرات سلبيّة مُحتملة في الاتّفاق يُمكن أن تدفع إلى اتّخاذ إجراء (هُجوم)”.
أمّا يواف غالانت وزير الحرب في حُكومة نِتنياهو فقد كان أكثر وضوحًا في كلمته عندما قال مساء الاثنين “كُل الخِيارات يجب أن تكون على الطّاولة لمنع إيران من حيازة سلاح نووي، واتّهمها بشن حرب استنزاف ضدّ إسرائيل عبر وُكلائها في جنوب لبنان”.
أمّا ثالثهم الجِنرال حليفا قائد المُخابرات العسكريّة فقال بدوره “إيران هي التّهديد الحقيقي لإسرائيل وأصبحت المُواجهة معها مُباشرة”، وركّز أكثر على مُناورة “حزب الله” البريّة التي تطرّقنا إليها آنفًا.
***
من المُفارقة أن هذا الرّعب الإسرائيلي الذي عبّر عنه الجِنرالات الثلاثة، وجد أصداءً قويّةً في أوساط أصدقاء أمريكا في لبنان الذين بادروا سريعًا بانتِقاد مُناورات المُقاومة في جنوب لبنان، واعتبروها تصعيدًا أطاحَ بالأجواء العربيّة الجديدة، وتهديدًا لأمن لبنان، وخُروجًا عن سياسة “النّأي بالنّفس” التي اخترعوها واستخدموها غِطاءً للسّياسات الأمريكيّة والإسرائيليّة التي أوصلت لبنان إلى حالةِ الانهِيار الحاليّة على الصّعد كافّة.
عودة التهديدات الإسرائيليّة لضرب إيران بعد غياب لن تُعطي ثِمارها، فقد سمعناها أكثر من عشرات المرّات طِوال السّنوات العشرين الماضية، وليس لدينا أدنى شك بأنّ جديدها لن يُرهب إيران، ولن يردع “حزب الله” والأذرع العسكريّة الأُخرى الحليفة، والفِلسطينيّة منها خاصّةً، وقد أصاب المسؤول الإيراني الذي فسّر هذه التهديدات لوكالة أنباء محليّة بقوله “إسرائيل فشلت أمام المُقاومة الفِلسطينيّة وتُريد تبرير هذا الفشل بأنّها تستعدّ لخوضِ حربٍ ضدّ إيران”.
يبدو أن دولة الاحتِلال فهمت جيّدًا مضمون الرّسالتين الأخيرين اللّتين بعثها “حزب الله” الأولى عمليّة “مجيدو” التي نفّذها أحد استشهادي الحزب قبل أكثر من شهر باختِراقه الحُدود والوصول إلى أحد مُستوطنات الجليل “مزنرا” بحزامٍ ناسفٍ وحقيبة مُتفجّرات، والثانية المُناورات البريّة الأخيرة في ذِكرى انتِصار حرب التحرير عام 2000.
نختم بالقول بأنّ المِنطقة في انتظار الغارة الأولى إذا صدقت التهديدات الإسرائيليّة، والرّد السّاحق عليها من جبهاتٍ عدّة ومُوحّدة، ومن المحور الإيراني تحديدًا، وما زِلنا نُؤمن بالمثل الذي يقول “من يُريد أن يضرب لا يُكبّر حجره”.. واللُه أعلم.