خيبر أكبر من ملحمة تاريخية دينية، ومسماها العسكري اليوم في هيئة صاروخ إيراني يختصر الدين والتاريخ وتحديات الواقع، ويلخصه كأداة مكثفة في تفعيل معادلات الصراع الممتد منذ أن قلع علي بن أبي طالب باب حصن خيبر اليهودي بذراعيه قبل 1400 سنة، ليدشّن معالم أمة اتخذت القدس قبلتها الأولى منذ بواكير مبعثها.
لخّص المسمّى الإيراني لهذا الصاروخ تحديات الأمة وأسس وحدتها، وهو العابر للمكان بمسافة ألفي كم، بزمن وقتي لا يتجاوز 12 دقيقة، ليحطّ في أكناف بيت المقدس، بهامش خطأ لا يتجاوز مترين، حاملاً شحنة غضب من عيني الإمام، رغم ما كان فيهما من رمد يوم فتح حصون خيبر، ليتولد منهما رأس حربي متفجر يزن 1500 كغم.
أزيح الستار عن خيبر في نسخته المعاصرة، بما تجاوز الدرس الديني والأثر التاريخي إلى الصراع العسكري القائم، وقد تفتحت شهية هرتسي هاليفي؛ المسمى رئيساً لأركان "الجيش" الإسرائيلي، محاولاً استعادة هيبة الردع الإسرائيلية، وهو يهدد بضربة وشيكة لإيران، وقد تأكّلت غداة حربه الفاشلة على الجهاد الإسلامي في معركة "ثأر الأحرار" قبل أقل من أسبوعين.
لم يخطر في بال مؤسس علم الكيمياء جابر بن حيان قبل 1300 سنة، وهو تلميذ الإمام جعفر الصادق، الحفيد الخامس لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ابنته الزهراء، أن علومه في الكيمياء والفلك والهندسة والفلسفة ستجد أثرها المباشر في خاصة عباد الله، أصحاب البأس الشديد، حملة الراية السوداء التي بشر بها خاتم الأنبياء فيما روي عنه، لتخرج من خراسان حتى تحط في إيلياء، وقد ظلل بها قوله تعالى للعرب وهم أصحاب الرسالة الأولى: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}، ليتلقفها حينئذ قوم سلمان الفارسي، بحسب جزم صحاح المسلمين في رواياتهم عن خاتم المرسلين، فإن الدين لو كان في الثريا لناله رجال من فارس.
كيماوية جابر، كما فلسفته الرسالية، تعانقتا معا لتجدا طريقهما في دكّ حصون خيبر المعاصرة، أو هكذا يُفترض تبعاً لمسمى الصاروخ الإيراني، فهو أداة عسكرية عابرة للحدود، حملت اسماً مزج بين القتال والفكر عبر سفر الزمان.
وقد أزيح عنه الستار بعد أيام من انقشاع غبار معركة وصلت صواريخها حتى مستوطنات بيت المقدس، ليأتي في خاتمتها شكر إيران على لسان قائد المعركة وفارسها الحاج زياد النخالة، وهو شكر يتكرر عقب كل صاروخ يخرج من غزة أو لبنان ليدك خيبر المقامة على أطلال التغريبة الفلسطينية والعربية والإسلامية.
أطلق هاليفي تهديده لإيران، ودعا نتنياهو إلى اجتماع مجلس وزراء حربه، وبدأ الإعلام العبري يتحدث عن حرب يوم القيامة على كل الجبهات، في ظل مناورة عسكرية تستمر أسبوعين من الشمال والوسط حتى الجنوب، وقد حملت اسم "الضربة القاضية"، بما يشبه الاستعداد للعدوان على إيران بمشاركة أميركية أو من دونها. وقد ظهر ما يشبه الإجماع الإسرائيلي على أولوية الصراع مع إيران، في ظل تنامي مشروعها النووي، باعتباره خطراً وجودياً على الكيان برمته.
انعكست التهديدات الإسرائيلية بوتيرتها المفاجأة على الاقتصاد لينخفض الشيكل بشكل لافت. في المقابل، ردت إيران بالكشف عن صاروخها المطور عن نسخ ثلاث سابقة، الذي يغطي كامل الأرض الفلسطينية المحتلة، عبر سمات التهرب من الرادار وعدم اكتشافه من قبل الدفاعات الجوية، بسبب انخفاض المقطع العرضي للرادار، بما يشمل سرعة الإعداد والإطلاق، ما يجعله سلاحاً تكتيكياً، إضافة إلى كونه سلاحاً استراتيجياً.
بين قدرة الصاروخ التكتيكية في المناورة وثباته الاستراتيجي، ثمة أساس يأتي من عبق التاريخ وصورة راسخة في المخيلة الإسلامية بإجماع مذاهبها التي اختلفت في كثير من مفاصل التاريخ، ولكنها اتفقت بشكل تام على رؤية الإمام علي وهو يقتلع باب خيبر، وإن اختلف المؤرخون في وزن هذا الباب الذي اقتلعه علي بذراعيه: هل يقدر على حمله 40 رجلاً أم 7 رجال!
كان باباً ثقيلاً استعصى كسره لأيام متصلة من القتال، حتى استقدم رسول الله رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فكان واسطة عقد آل بيت النبوة، ليقطع رأس ملك خيبر وقائدها العسكري مرحب بن أبي زينب.
إجماع التاريخ عبر زاويته الدينية في فتح خيبر مفصل نادر في التراجيديا الإسلامية الراهنة، لكنه نافذة أمل حقيقية تنبع من بأس ذراعي علي وقد صلب عودهما في حضن بيت النبوة، كما تصنع غزة صواريخها في غمرة حصار مطبق بيد أهلها، وهناك في إيران خرج صاروخ خيبر بيد صناعها وخبرائها، وقد نُقش على فولاذه المتفجر اسم الشهيد حسن طهراني؛ مؤسس صناعة الصواريخ في إيران، الذي اغتاله "الموساد" الإسرائيلي عام 2011، ليأتي هذا الإنجاز رغم القيود المفروضة على أنشطة إيران المتعلقة بالصواريخ بموجب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2231.
وقعت الحرب الإسرائيلية القاضية أم لم تقع، فإن خيبر بوزنه المتفجر يترقب ساعتها، وهو يتمتع بسرعة فائقة في التجهيز، وبقدرته على الإصابة بشكل نقطوي ودقيق، ولا يحتاج إلى توجيه المرحلة النهائية، وهو يحتفظ بجاهزيته لمدة 3 سنوات، تبقى في حدود معادلة الصبر الإستراتيجي في العقل الإيراني، وهي معادلة يمكنها كيّ الجرح في مواجهة الميدان الممتد عبر البحار والتعقيدات الأمنية، إلا أن يطال عصب برنامجها النووي، محطّ أفق جيلها المستقبلي، إذ يتهيأ خيبر ليصنع عصراً يمكن للأمة بعده أن تنخرط في ملاحم لتصلّي الفجر جماعة في القدس وأكنافها.