ما زلت أذكر جيّداً ذلك الصباح الدمشقيّ الجميل، قبل أحد عشر عاماً، بالتمام والكمال. كنت حينها ومجموعة من الأصدقاء الأعزاء تلقينا دعوة إلى حضور أحد المؤتمرات الداعمة للشعب الفلسطيني في الجمهورية الإسلامية في إيران. ولأن الانتقال من مطار القاهرة إلى المطارات الإيرانية بصورة مباشرة، لم يكن متاحاً في ذلك الوقت، اضطررنا إلى السفر إلى سوريا الحبيبة كمحطة انتقالية موقتة، ومنها بعد أيام إلى حيث انعقاد المؤتمر في العاصمة الإيرانية طهران.
أذكر حينها أننا مكثنا رفقةَ مضيفينا في مخيم اليرموك مدة أسبوع، ريثما يتم تجهيز الأوراق المطلوبة للسفر، من تأشيرات وغيرها. كان حينها المخيم ما زال على جماله وبهائه وتألقه، وطيبة أهله وكرمهم، من فلسطينيين وسوريين، لا تخطئها العين. كنا نسمع بعض الأصوات التي كانت تشي باقتراب المواجهات المسلحة إلى حدود المخيم، حيث الحرب على سوريا العروبة كانت في بدايتها، ولم تكن بلغت بعدُ مرحلةَ الهجوم على العاصمة دمشق، باستثناء بعض ضواحيها البعيدة، إلّا أن الطمأنينة والسكينة كانتا تلفّاننا، وتُشعراننا بأننا في عاصمة العرب الأولى، حيث التاريخ والحضارة، والحاضر والمستقبل.
في اليوم الثاني من إقامتنا هناك، أبلغنا مضيفنا أننا مدعوون في اليوم التالي إلى لقاء شخصية فلسطينية مرموقة، من دون ان يكشف النقاب عن هوية تلك الشخصية. وعلى رغم محاولاتنا الحثيثة، وجهودنا التي اتّسمت بكثير من الفضول، فإن المضيف رفض الإفصاح عن ذلك الاسم، وبقي مصرّاً على كتمانه، مع إشارته إلى أنه سيكون بمثابة مفاجأة سارة للغاية، بالنسبة إلينا.
انطلقنا في اليوم الموعود، والذي إن لم تَخُنّي الذاكرة كان يوم ثلاثاء، في منتصف شهر أيار/مايو، وسارت بنا السيارة نحو ساعة من الزمن، اختلطت فيها مشاعرنا، وبلغ فينا الفضول مبلغه، إلى ان وصلنا إلى منطقة هادئة في وسط العاصمة السورية، ودخلنا بناية صغيرة، كان يبدو عليها التواضع، على رغم طرازها المعماريّ الجذّاب كسائر بيوت الشام العريقة، والتي تدل على تاريخ طويل، وحضارة أصيلة، وشعب يحبّ الحياة، على رغم غربان الظلام، وشذّاذ الآفاق الذين سعوا لنشر الخراب والدمار في كل النواحي.
كان واضحاً منذ الوهلة الاولى أن ساكن هذا البيت شخصية مهمة، بحيث انتشر في ردهات المبنى، على رغم صغره، بعضُ الحراس الشخصيين المسلحين، ولاحظنا وجود كاميرات مراقبة تنتشر في كل الزوايا. كل ذلك كان مترافقاً مع هدوء غريب يلفّ المكان، ويدفعك إلى الشعور بالرهبة في ظل عدم اتضاح الصورة، وجلاء الحقيقة. وما هي إلّا دقائق، حتى دُعينا إلى صالة متوسطة الحجم، فيها صفان من الكراسي، ويتوسّطها من الناحية الجنوبية كرسيّ مميز بعض الشيء، وإلى جانبه طاولة صغيرة، بحيث تبادر إلى أذهاننا أنه كرسي المضيف، الذي كانت تفصلنا عن لقائه بضع دقائق، كما أخبرنا أحد الشبّان المهذبين، والذي كان، كما يبدو، قائد طاقم الحراسة الموجود في البيت.
وما هي إلّا دقائق قليلة حتى فُتح الباب، وظهر أمامنا شخص كنا قابلناه قبل يومين من هذا اللقاء داخل مخيم اليرموك، ودخل علينا وهو يبتسم، مدركاً شغفنا بمعرفة حقيقة الشخص الذي سنقابله. وفعل خيراً عندما بادر، من دون أي تأخير، إلى إبلاغنا أننا ضيوف الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، الدكتور رمضان عبد الله شلح، مبيّنا أن الأمين العام علم بوجودنا في الأراضي السورية، وطلب مقابلتنا ليسمع منا أحوالَ الناس، وهمومهم، وكيف تجري الأمور في فلسطين، التي حُرم من دخولها حتى يوم وفاته.
ولا أبالغ إذا قلت اليوم، بعد هذا الوقت الطويل، إنني ما زلت أشعر بالرهبة كلما تذكرت تلك اللحظات، والتي مرّت علينا كأنها أعوام مديدة فصلت بين معرفتنا هوية الرجل ودخوله علينا بهيبته ووقاره، وابتسامته العريضة، التي كانت تُخفي خلفها تعب الأعوام، وثِقل الأمانة، وهموم لها اول، وليس لها آخر.
مكثنا في ضيافة "الأب" أبي عبد الله نحو خمس ساعات، تحدثنا فيها عن كل شيء: عن فلسطين، وعن المقاومة، وعن الشعب الذي ضحّى وما زال. تحدّثنا عن الانقسام وآثاره، وعن الاحتلال وجرائمه، وعن الأوطان العربية والإسلامية، والتي تُستهدف في أمنها واقتصادها، وفي استقرارها وسلمها الأهليّ؛ عن سوريا ومصر والعراق، وعن إيران الثورة، التي قلبت كل الموازين، وحالت دون سقوط كثير من القِلاع، التي ما زالت تقاوم. كان حديثاً شيّقاً يخرج من قلب الأمين، الذي بدا عليه التعب والمرض في بعض الأحيان.
اليوم، في الذكرى الثالثة لرحيل قمر فلسطين، وسيد مقاومتها الشريفة، والذي رفع لواء جهادها في كل الميادين، متجاوزاً كل التحدّيات، ومتغلّباً على كل العقبات والصعوبات، يمكن لنا أن نقول، ونحن مرتاحو البال، ومطمئنو الضمير، إن ذلك المشروع، الذي سقاه الدكتور رمضان شلّح، رحمه الله، بدموع عينيه، التي ذُرفت على فراق حبيبه وتوأم رحيله، فتحي الشقاقي، وعرق جبينه، الذي سال وهو يسعي لدرء الخطر عن شعبه، وجبر الضرر الذي وقع بعد اقتتال الإخوة، وانقسام الوطن، وثواني عمره التي أمضاها مجاهداً، وأسيراً، ومبعداً، ومطارَداً، تترقبه عيون عملاء الموساد و"السي آي أيه"، طمعاً في حفنة من الدولارات الأميركية، نستطيع ان نقول إن ذلك المشروع أثمر، وأصبح أكثر ثباتاً ورسوخاً، على رغم الحملات الغادرة، والضربات القاتلة، والاستهداف الممنهج في طول الوطن وعرضه، وفي ساحات أخرى.
أصبح هذا المشروع، الذي بدأ بفكرة بفضل الله أولاً، ثم بجهد إخوانه وأبنائه، أكثر قوة وعنفواناً وصلابة، وبات بعد كثير من التعب والتضحيات، يمثّل رأس الحربة في مواجهة شذّاذ الآفاق، والقتلة والمجرمين من اليهود المحتلّين، وبات يقف لهم بالمرصاد في كل ربوع الوطن، من جنين ونابلس وطولكرم، وكتائبها المباركة والعنيدة في ضفتنا الباسلة، مروراً بغزة البطلة، ورفح العنفوان، وخان يونس والوسطى والشمال الصامد، حيث موطن الأسود، وساحات الوغى، ومدارس التضحية والفداء.
يمكننا أن نقول، من دون تردد أو مواربة، وبعيداً عن الانتماءات الحزبية، والولاءات التنظيمية، إن مشروع الجهاد والمقاومة، والذي سهر عليه الأمين الراحل لياليه الطوال، وأمضى في سبيل اشتداد ساعده أعوامَ عمره القصيرة، أنه أصبح أكثر وضوحاً على رغم محاولات التعتيم والتهميش والتشويه، وأقوم وأصلب عوداً على رغم محاولات الكسر والتخويف، وأكثر قدرة على المواجهة والصمود على رغم شراسة الهجمة، وصعوبة المواجهة، وندرة الزاد، وقلة النصير.
اليوم، بعد أكثر من ثلاثة وأربعين عاماً من تأسيس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، والتي تولى قيادتها، وحمل لواء كفاحها وجهادها، ثلاثة أمناء عامّون، قضى اثنان منهم نحبهما من دون تبديل أو تغيير، وثالثهما ما زال ينتظر من دون أن يقيل أو يستقيل، ومن خلفهم عشرات آلاف المناصرين والمحبين، وآلاف المقاتلين والمجاهدين، بعد كل هذه الأعوام الطوال، ما زالت حركة الجهاد تواصل طريقها نحو وعد الله بالنصر والتمكين، تقدم الواجب على رغم الإمكان، وتواجه بيديها العاريتين والنازفتين، مخرز بني إسرائيل وأعوانهم، تمضي في طريق ذات الشوكة، من دون خوف أو وجل، ومن دون ان تلتفت إلى من باع وخان وهادن، تقدم أشلاء قادتها العظام على مذبح الحرية، قرباناً لله، وفداءً للأرض المباركة، وللأقصى الحبيب، ودفاعاً عن كل شبر من فلسطين الحضارة والتاريخ.
ما زالت الجهاد، بشبابها وشيوخها، بنسائها وحرائرها، تسير في النهج ذاته الذي سار عليه قادتها العظام، غير آبهةٍ بمغريات زائلة، وغير ملتفتةٍ إلى وعود كاذبة، شعارها المقاومة، وخيارها القتال، وطريقها ملفوف بالمكاره من كل اتجاه.
اليوم، في ذكرى عروج القائد الكبير، والمناضل العنيد، في ذكرى الوجع الذي لم ينتهِ، والجرح الذي لم يندمل، في ذكرى وفاة الدكتور المجاهد الكبير رمضان عبد الله شلح، أبي عبد الله، نحن على ثقة تامة، وإيمان ليس له حدود، بأن المشروع الذي قدّم الراحل العظيم روحه فداءً له، وبذل كل عمره ليراه ينغرس في الأرض، من دون خوف من ريح عاتية، أو عاصفة هائجة، بلغ مراده، واستوى على سوقه، ويؤتي أُكله كل صباح ومساء، بإذن ربه، مقاومةً وجهاداً، وتضحيةً وفداءً.
سلام عليك يا أبا عبد الله، وسلام على إخوانك وأبنائك، سلام على شعبك وأمتك، سلام على الذين سبقوك إلى الشهادة، وعلى الذين لحقوا بك، وسلام على الذين ما زالوا ينتظرون.