خبير في مكافحة الصهيونية، وعضو لجنة فلسطين ومقاومة التطبيع، باتحاد المحامين العرب بالقاهرة
بسم الله الرحمن الرحيم الذي علَّمنا: {وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}.(الحشر: 2).
علَّمنا أيضًا: {لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ}. (الحشر: 13). صدق الله العظيم
ونُصلي ونسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي علَّمنا: "لا تقومُ الساعةُ حتى يقاتل المسلمون اليهود، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجرُ والشجر: يا مسلم هذا يهودي خلفي، تعالَ فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود". ثم أما بعد:
سنتناول قضيتنا هذه من خلال محاورَ خمسة، وهي:
إجراءات عسكرية احترازية، المحاسبة والشفافية، خمس صدمات للمجتمع الصهيوني، تداعيات مستقبلية للعملية، قصيدة شعرية، وذلك على النحو الآتي:
المحور الأول- إجراءات عسكرية احترازية:
فيما يتعلق بالإجراءات العسكرية التي اتخذتها دولة الكيان الصهيوني على الحدود المصرية الفلسطينية، المسماة زورًا بالحدود المصرية الإسرائيلية، كَشَفت إذاعةُ جيش الاحتلال، صباح اليوم الاثنين 12 من يونيو "حزيران"، عن الإجراءات العسكرية الجديدة على الحدود المصرية المجاورة لحدود "فلسطين" المحتلة، وأفادت بالآتي:
إن الإجراءات الجديدة تتمثل بمنع الاقتراب من السياج، وفي حال ورود بلاغ عن أي تحرّك غير معتاد لجندي مصري، يتم التعامل مع أنه هجوم مُحتمل.
إن الإجراءات الجديدة تتضمن ضرورة لبس الخوذة فورًا والاستعداد لإطلاق النار، حال ملاحظة اقتراب أي جندي مصري من الحدود، حيث إن "الافتراض الحالي بأن الجنود المصريين لم يعودوا محل ثقة"، وما حصل من جندي مصري واحد قد يتكرر مرة أخرى.
ويعني ذلك عدم الثقة في امتثال الجنود المصريين لمعاهدة السلام "البارد" الذي تلتزم به أجهزةُ الدولة الرسمية دون الشعبية في مصر، وانتماء الجنود "شعوريًّا" إلى التيار الشعبي الرئيس، لاسيما وأن هذه العملية هي العملية الثالثة لجنود مصريين منذ توقيع معاهدة ما تسمى بالسلام، وليست الأولى، وهي الرابعة بإضافة عملية الجندي الأردني. أحمد الدقامسة.
وجاءت تلك الإجراءات، كرد فعل لما شهدته الحدود المصرية في 3 يونيو 2023م، عقب تبادل جندي مصري إطلاق النار مع قوة من جيش الاحتلال، أسفرت عن مقتل (3) جنود "إسرائيليين" وإصابة آخر، بالإضافة إلى استشهاد الجندي المصري محمد صلاح، فيما باشرت بعدها السلطاتُ الأمنية المصرية و"الإسرائيلية" بتحقيق مُشترك حول الحادث.
المحور الثاني- المحاسبة والشفافية:
دأبت دولةُ الكيان الصهيوني على إجراء تحقيقات واتخاذ إجراءات وقائية في أعقاب الإخفاقات العسكرية التي تلحق بها، خلال سِنيّ الصراع العربي الإسرائيلي- وهو ما لا يتوفر في دولنا العربية وللأسف- وذلك لاستخلاص العِبَر والدروس المستفادة لتلافيها مستقبلًا، فعلى سبيل المثال، وعقب انتصار الجيش المصري وظهيره العربي على الصهاينة في حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973م مباشرة، عقدت اللجنة المسماة "أجرانات" تحقيقاتها في هذا الشأن، والتي تشكلت في 21 نوفمبر 1973م، كما أنه في أعقاب انتصار حزب الله اللبناني على الصهاينة في حرب "تموز" 2006م، عُقِدَت لجنة باسم "فينوجراد" التي تشكلت في 17 "أيلول" 2006م، وهذا دأبهم... وتُجرَى محاسبة المسئولين عن التقصير، وما يجري الآن هو في نفس السياق، وأتوقع أن تشهد الأيام المقبلة تغييرات للقيادات العسكرية المسئولة عن التقصير.
المحور الثالث- صدمات خمس للمجتمع الصهيوني:
إن هناك صدمات "خمس" هزت كيان دولة الاحتلال، من جراء الحادث البطولي الذي قام به الجندي المصري الشهيد بإذن الله. محمد صلاح، صدمات شعبية وسخط شعبي في إسرائيل على العسكرية التي لا تقهر، وتتمثل في الآتي:
الصدمة الاولي: كيف تم اختراق الحدود التي صُرفت عليها المليارات من أجهزه استشعار وكاميرات، وسِياج حديدي... إلخ؟
الصدمة الثانية: تصريح المتحدث العسكري المصري الذي أشار فيه إلى أن الجندي كان يتعامل مع مهربين، وبذلك يوفر الحماية للجندي أنه كان يقوم بعمله، وهم كانوا يأملون أن يُجَرم فعلُ الجندي رسميًّا وإعلاميًّا.
الصدمة الثالثة: أن الجندي المصري الشهيد جندي أمن مركزي، تدريبه على فض الشغب أو إجراء عمليات التفتيش على الحدود، بينما المواجه على الطرف الآخر هم جنود كتيبتَي "كاركال، وفهد" "Caracal & Cheetah Battalion"، ذات المستوى والتدريبات القتالية العالية.
الصدمة الرابعة: أن الجندي المصري الشهيد تسليحه بندقية آلية عيار ٧,٦٢×٣٩، وهي من أقدم طرازات البنادق على الإطلاق، وتعتمد على مقومات الفرد بشكل كبير: من قوة النظر، وقوة الأعصاب، وقوة العضلات؛ لتحمُّل رد فعلها الكبير، بينما على الطرف الآخر تسليح الجنود الإسرائيليين البندقية M4 (أمريكية الصنع ومن التسليح الرئيس للجيش الأمريكي) والتي تتسم بدقة عالية للغاية في التصويب؛ لاحتوائها على تليسكوب عالي الدقة، وجهاز "رؤية ليلية - Night Vision" بالأشعة تحت الحمراء، وخفة الوزن، وعدم وجود رد فعل يُذكر للضرب.
الصدمة الخامسة: قدرة الجندي المصري على المناورة وسط الصخور، والذي لم تكتشفه غير طائرة استطلاع بدون طيار، وتم دفع كتيبة قوات خاصة كاملة لاعتقاله، ولكن قدرته العالية على المناورة وتبادل إطلاق النار، استطاع قتل فرد من القوات الخاصة الإسرائيلية، وإصابة آخر، مما اضطرهم لوقف التقدم، والهجوم عليه بطائرة بدون طيار قتالية، استطاعت قتله من أعلى (يُشار إلى أن عدد ضحايا الحادث هو مقتل وإصابة 5 أشخاص).
وتلك الصدمات جعلت السخط الشعبي والاعلامي الإسرائيلي على الجيش الإسرائيلي مرتفعًا للغاية، ووجهت اتهامات بالتقصير الشديد في الإجراءات الأمنية والتأهيل النفسي والعسكري لجنوده.
كما أن هذا الحدث قلبَ استعدادات إسرائيل للاحتفال بذكرى نكسة يونيو 1967م وقدرتها من زمن، على احتلال أراضٍ عربية بالقوة، إلي مأتم وحزن وحسرة عميقة، لأن ما حدث مهما كانت ملابساته، هو هزة عنيفة للقدرات القتالية والروح المعنوية والعقيدة القتالية، تمحو كل ما فات، وتجعل إعادة في الحسابات ألف مرة قبل التفكير بالتلويح أو التهديد أو التفكير في أي مواجهة عسكرية، وتعيد للأذهان كيف فعلها الأجداد في حرب "تشرين الأول" 1973م، وأنها متوارثة للأحفاد، وكأنما هذا الجندي المصري البسيط التعليم، في موعد مع القدر، قد اختار توقيتًا مناسبًا، فشلت أجهزة عربية رسمية في تحقيق مثيله.
المحور الرابع- تداعيات مستقبلية:
أتوقع تكرار عمليات فردية مشابهة، لاسيما من جنود حرس الحدود المنتمين إلى دول الطوق العربي: مصر، الأردن، سوريا، لبنان، مع اختلاف طبيعة مسارح العمليات في كل دولة، وذلك بأثر المحاكاة؛ حيث إن العملية التي قام بها الجندي الشهيد. سليمان خاطر، ضد الصهاينة في الخامس من أكتوبر 1985م - توقيت عبقري - فيما عُرفت بعملية "رأس برقة"، ألهمت الجندي المصري. أيمن حسن بالقيام بعملية مماثلة عُرفت بعملية "رأس النقب" في عام 1990م، قبيل الذكرى السنوية لحرب أكتوبر أيضًا، كما ألهمت جندي حرس الحدود الأردني. أحمد الدقامسة، لعملية مماثلة عرفت بعملية "الباقورة" عام 1997م، وأخيرًا وليس آخرًا عملية "معبر العوجة"، في العام 2023م، التي نفذها الجندي الشهيد. محمد صلاح، علمًا بأن توقيت تلك العمليات يعكس رمزيتها، وأن أية محاولات من الجانبين المصري والإسرائيلي؛ لإيهام الرأي العام بعدم وجود أي دوافع دينية أو وطنية أو قومية وراء الحادث؛ حرصًا من الجانبين على الإيحاء بأن "معاهدة السلام" المُبرمة بينهما، تزال حيَّة وفاعلة، ستذهب أدراجَ الرياح، على ضوء التحليل السابق.
كما قد تُسفر تلك العملياتُ عن توترات داخلية في جيوش دول المواجهة من جهة، وستكون دافعة لحراك على ساحات جيوش الظل بدول المقاومة في منطقتنا العربية، وربما التنظيمات الإرهابية المتأسلمة: "داعش" وأخواتها من جهة أخرى، وستكون إرهاصات لمناوشات وحروب قصيرة المدى مع دولة الكيان الصهيوني في مرحلة الكرَّة التي استعلى فيها الصهاينة؛ توطئة للمواجهة الشاملة في وعد الآخرة بإذن الله، وفق وعد المولى عز وجل لعباده في قوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}.(الإسراء:7).
المحور الخامس- قصيدة بعنوان "الضنا غالي" لشُهداء الأمة:
وأنتهز الفرصة – إذا سمح الوقت – بقراءة قصيدة صغيرة بالعامية المصرية إهداءً إلى روح الشهيد الجندي. محمد صلاح، وإلى أرواح شهداء أبناء مصر الكنانة، والأمة العربية في ساحات الحروب كافة.
أُنْشُودَة: الضَّنَا غَالِي
إِحْنَا اسْتَعَادْنَا* أَرْض *** لِسَّه* كَمَانْ الْعِرْض
وِالرَّك* عَ الضَّنَا *** تَارُه* عَلِينَا فَرْض
حَاكِمِ الضَّنَا* غَالِي *** وِمَقَامُه* فِ الْعَالِي
وِالْغَالي لَاجْلُه* يْهُون *** بِنْفُوسْنَا* لَا نُبَالِي
قَال* مُصْحَفِي فْ جِيبِي *** وِمْدَادُه* فِيه لَهِيبِي
يَا نَفْسِي* لَا تْخِيبِي *** وِانْ خُفْتِ* كَانْ عِيبِي
فِي نَعْش* بِالْبَلَالِين *** وِزَغَارِيط* وِلِيهَا رَنِين
بِتْوَدَّعَكْ* مَلَايِين *** يَا حَفِيد* صَلَاح الدِّين
إِحْنَا اسْتَعَادْنَا* أَرْض *** لِسَّه* كَمَانْ الْعِرْض
وِالرَّك* عَ الضَّنَا *** تَارُه* عَلِينَا فَرْض
عميد دكتور. حسين حمودة مصطفى
- خبير أمني واستراتيجي في مجال مكافحة الصهيونية
- وعضو لجنة فلسطين ومقاومة التطبيع
- باتحاد المحامين العرب.
- مُحَكّم دولي.
القاهرة في: 12/6/2023م.