بدا فندق الرتنو موحشا بلا غريب عسقلاني، كانت المرة الأولى التي آخذه نزلا بعد رحيله، فقد رافقته في نزله مرتين، مرة على هامش انعقاد المؤتمر السابع لحركة فتح ومرة أخرى خلال انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني، في المرتين كان الرتنو يضج بالحياة من كتاب وسياسيين وأصدقاء، يأخذون من بهوه المتواضع مجلسا للحديث في الأدب والسياسة.
عشنا معا بضع الوقت في لقاءات متفردة ومتميزة قلما يظفر بها واحد مثلي لم يبلغ منتهى هؤلاء الكتاب العظماء من جيل الرواد، أمثال يحيى يخلف ويحيى رباح وغيرهما من الطاعنين في الأدب والسياسة.
وبالعودة لوحشة الرتنو التي وجدت، وجدتني أتفقد غريب في غرفه وبهوه وبين حكاياته التي تبدلت، زارني يحيى يخلف في الرتنو ولم يكن بيننا غريب غير أنه كان حاضرا في حديثنا، عدتُ يحيى رباح في بيته المجاور للرتنو، لم يغب غريب عن لسانه المثقل بالآلام والأوجاع، ذكرته بما كتب في رحيله.. الذي قلته شخصيا في تعدد مناقب غريب خلال اللقاءات التي نظمت بعيد رحيله، فقد كتب يحيى رباح مستذكرا:
"ذات يوم، اتصل بي مكتب نائب القائد العام للثورة الفلسطينية ومسؤول القطاع الغربي، أي مسؤول العمل الفدائي في فلسطين المحتلة، ذهبت لمقابلة أبو جهاد الوزير الذي ظل حتى يوم استشهاده، ورغم شهرته التي طغت في الأفاق أقرب إلى تلميذ في المدرسة الثانوية، شعره مسرح جيداً، وملابسه بسيطة جداً، وابتسامته صغيرة، لا تكاد ترى ولكنها تضيء عالماً مضطرباً من أوله إلى آخره.
عندما وصلت وجلست بجواره، أخرج من حقيبة صغيرة، كتاباً وأعطاني إياه، فقال لي هذه رواية لأديب في غزة، اقرأها جيداً، وإذا أعجبتك فاكتب عنها في الصحافة الفلسطينية واللبنانية وأينما تستطيع، نريد أن نبشر به، وأن نجعل اسمه عالي الحضور، وانتهى اللقاء."
غادرت بيت يحيى رباح عائدا إلى نزل الرتنو الذي بدت لي الحياة فيه رتيبة لا روح فيها غير روح غريب التي أطلقت فراشاتها تحوم حولي، للحظة خامرتني فكرة الانتقال من ذلك الفندق إلى فندق آخر، غير أنني آثرت العودة إلى غزة مبكرا، لكنني سرعان ما عدت إلى رام الله ووجدتني مرة أخرى آخذ من الرتنو نزلا وحدي وذكرياتي مع غريب التي تركها في أرجائه، أٌحدث تلك الفراشات عن زمن التيه بعد فصل البرتقال ومرار الحلق بعد جفافه.
يقولون إنه مضى عام على رحيل غريب عسقلاني، لا أدري كم تبقى في تعداد السنين لتذكر يوم الرحيل، إن ما أعرفه الآن أنه مضى على غريب عام من جفاف الحلق، جفاف الأدب الذي ينثال من بين أصابعه المعتقة بأحبار الحلم وجمرة العودة وبدخان السجائر، وحكايات النول في زمن الهجرة.
كان غريب عسقلاني البرتقالة الأشهى في زمانه الأبهى.
زمن غريب عسقلاني
بقلم: د. شفيق التلولي