كتب المفكر الشهيد فتحي الشقاقي أثناء الانتفاضة الأولى عام 1990م مقالاً بعنوان "الجهاد الإسلامي وحماس معاً.. أين يكمن الخطر؟!"، دعا فيه إلى تشكيل إطار جبهوي هدفه تحرير فلسطين، تكون حركتا الجهاد الإسلامي وحماس مكونه الرئيس.
وتتضح فكرة المقال في قوله: "أما يجدر بنا – كحركة إسلامية فلسطينية – أن نلبي نداء الوحدة، نداء القيادة الإسلامية الموحدة، ومن ثم يمكن أن نتقدم لشعبنا لاحقاً بإطار جبهوي يعبئ ويحشد ويوظف كل طاقاته من أجل اقتلاع الكيان من جذوره وتحرير فلسطين وإعادتها إلى حضن الأمة؟".
وفي مقال لاحق عام 1994، أكد الفكرة نفسها، وحدد بعض معالم الجبهة التي ستضع استراتيجية موحدة للمقاومة وإدارة الصراع مع الكيان الصهيوني تحت اسم "البديل الوطني".
وضع استراتيجية موحدة للمقاومة وإدارة الصراع مع الكيان الصهيوني بين حركتي الجهاد الإسلامي وحماس كان أحد عناوين حوار دار بين قيادة الحركتين في القاهرة مطلع الشهر الحالي برئاسة قائدي الحركتين المجاهدين زياد النخالة وإسماعيل هنية.
وقد كنت أحد المشاركين في هذا الحوار، وكانت مداخلتي في نقطتين: أهمية الاعتراف بوجود خلاف في استراتيجية المقاومة وإدارة الصراع بين الحركتين، وضرورة التوافق على استراتيجية موحدة للمقاومة وإدارة الصراع مع الكيان الصهيوني.
التوافق على استراتيجية موحدة للمقاومة وإدارة الصراع مع الكيان الصهيوني يحتاج إلى تشكيل جبهة وطنية من الحركتين، ثم كل القوى المؤمنة بمشروع المقاومة والتحرير استجابةً لعدة تحديات، أهمها: تحدٍ خارجي – وهو الأساس – لمقاومة الكيان الصهيوني وهزيمته وإزالته وتحرير فلسطين، وتحدٍ وطني لتجاوز تأكل المشروع الوطني وتشرذم الحركة الوطنية وتراجع المنظمة عن مشروع التحرير والعودة، وتحدٍ داخلي لتخطي الحسابات الحزبية الضيقة والخلافات السياسية الهامشية والتراث الفصائلي الثقيل.
تجاوز تلك التحديات يقتضي تجاوز أوهام المرحلة السابقة التي خلَّفها الفكر السياسي الفلسطيني المؤسس لنهج التسوية ومشروعها، وأهمها: وهم إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة على جزء من أرض فلسطين إلى جانب الكيان الصهيوني القائم على الاستيطان الإحلالي بنهج التسوية السلمية، سواء بالاستناد إلى "قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية" أو بالاستناد إلى مبرر التوافق الوطني، باعتبارها "صيغة توافقية وطنية مشتركة"، وتبديد هذا الوهم بحقيقة وهدف تحرير أرض فلسطين قبل الدولة المستقلة.
هدف تحرير الأرض يتطلب تجاوز وهم مرحلية التسوية الَّذي سكن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي وقعت على اتفاقية أوسلو عام 1993م، التي استبدلت "سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة" على أرض محررة بسلطة فلسطينية تحت الاحتلال، وتبديد هذا الوهم بحقيقة مرحلية التحرير بعيداً من الارتباط بنظام سياسي فلسطيني بُني على أساس مرحلية التسوية، وبعيداً من مبررات التعايش مع الكيان أو تأجيل الاشتباك مع الاحتلال.
تجاوز وهمي الدولة المستقلة ومرحلية التسوية يقود إلى ضرورة تجاوز وهمي إصلاح المنظمة وإنهاء الانقسام، فلا توجد إمكانية لإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة فريق أوسلو المتمسك بنهج التسوية مع العدو والإقصاء للمقاومة، والعمل بدلاً من ذلك على بناء جبهة مقاومة وطنية تقود الحركة الوطنية وتتبنى المشروع الوطني حتى استكمال شروط إصلاح المنظمة.
ولا يوجد إمكانية لإنهاء الانقسام وإنجاز المصالحة الوطنية وفق فلسفة المصالحات السابقة المحكومة بسقف أوسلو وهدف ترويض المقاومة، والعمل بدلاً من ذلك على تحقيق الوحدة الوطنية عبر بوابة مشروع المقاومة والتحرير سياسياً وميدانياً.
ينبغي تجاوز التحديات والأوهام السابقة نحو الجبهة الوطنية التي ستكون لها استراتيجية موحدة للمقاومة ضد الاحتلال وإدارة الصراع مع الكيان، على أرضية مختلفة ومناقضة لنهج التسوية، وعلى قاعدة القواسم الوطنية المشتركة بين حركتي الجهاد الإسلامي وحماس وكل قوى المقاومة، وهي: وحدة فلسطين والأرض والشعب والقضية، وأهداف التحرير والعودة والاستقلال، ونهج الصمود والمقاومة، والعمق العربي والإسلامي لفلسطين، والتحالف مع محور المقاومة... وصولاً إلى التوافق على إدارة التباين بين الحركتين لتحقيق الانسجام والتكامل بين استراتيجيتي المشاغلة والمراكمة.
المشاغلة، كما أوضحها مؤسّس "الجهاد الإسلامي" المفكّر الشهيد فتحي الشقاقي بقوله: "الجهاد يجب أن يستمرّ بلا توقف لإضعاف العدو، ولاستنهاض الأمة كي تنهض وتتحد وتتجه إلى بيت المقدس"، هي طريقة المقاومة التي سلكتها الحركة فعلياً منذ نشأتها وحتى اشتباكات الضفة الغربية العسكرية المتواصلة ومعركة – ثأر الأحرار – في قطاع غزة.
والمراكمة، كما فهمت من تصريحات قادة حركة حماس، هي "مراكمة القوة العسكرية – المادية والبشرية – استعداداً للقتال في المعركة الفاصلة التي ستكون معركة التحرير والعودة أو المعركة الكبرى أو معركة وعد الآخرة".
والاختلاف بين المشاغلة والمراكمة نظريّ أكثر من كونه عملياً، فالاستراتيجيتان متكاملتان؛ فالمشاغلة تؤدي إلى مراكمة قوة المقاومة والشعب والأمة، والمراكمة – إذا خلت من هدنة طويلة الأمد – ستؤدي إلى جولات مشاغلة، لاستحالة أن يترك العدو المقاومة تراكم قوتها التي تهدد آمنه ووجوده.
المشاغلة في الضفة الغربية ليست موضع خلاف بين حركتي الجهاد الإسلامي وحماس، فقد بادرت حركة الجهاد الإسلامي إلى تفعيل المقاومة المسلحة فيها، والتي تشارك فيها حركة حماس بقوة، ومعها قوى المقاومة الأخرى.
ولكن المشاغلة في قطاع غزة تحتاج إلى محددات لإدارة الاختلاف بالتوافق بين الحركتين على قواعد الاشتباك مع الاحتلال بتحديد جرائم الاحتلال التي تستوجب رداً من المقاومة، مثل: ارتكاب مذبحة في الضفة الغربية، واغتيال مقاوم في قطاع غزة، والقيام بعدوان عسكري يؤدي إلى ارتقاء شهداء ومحاولة تغيير مكانة الأقصى نوعياً، كالتقسيم المكاني أو الهدم الجزئي...
التوافق على قواعد الاشتباك مع الاحتلال جزء من استراتيجية المقاومة وإدارة الصّراع ضد الاحتلال، وهي بدورها جزء من مشروع المقاومة والتحرير في إطار المشروع الوطني الفلسطيني، ويمكن من خلالها توزيع الأدوار بين الكل الفلسطيني بطريقة تكاملية تقوي جبهة المقاومة وتخدم مشروع التحرير. وهنا تكمن قوة حركتي الجهاد الإسلامي وحماس وكلّ المقاومة والشعب.