"على اليمين واليسار كان الرصاصُ ينهمر على حازم كالمطر.. يركض بسرعة صوب سيارة الاسعاف.. يُزيح بكفيه العرق المُتصبِب من جبينه.. أما الرمال المتطاير بفعل الرصاص فقد كان يصطدم بجسده كأنه طلقة نارية تخترق جسده"، في تلك اللحظات أصيب الزميل الصحفي حازم ناصر برصاص قناصة الاحتلال الإسرائيلي على مدخل مخيم جنين.
مشهد إطلاق النار صوب الصحفيين وإصابة الزميل حازم ناصر، يخالف كل الأعراف والقوانين الدولية والإنسانية، لا سيما أنَّ حازم كان يرتدي شارة الصحافة، ويحمل كاميرا التصوير.
على بعد أمتار من إصابة الصحفي حازم ناصر تقف سيارات الإسعاف، "فانوس" الإضاءة، وصوت الرصاص الغزير يسيطر على المشهد، فيا لم تستطع أي مركبة من انْ تتحرك نحو حازم، لأن جنود الاحتلال كانوا يصوبون رصاصات بنادقهم تجاه كل من يتحرك في تلك المنطقة المكتظة بالسكان المدنيين.
السترة الزرقاء.. كلنا تحت الرصاص!
"كان الاستهداف مباشرًا، وكنا نرتدي العلامات التي تدل على أننا صحفيين، والمنطقة لم يُطلق منها أي رصاصة صوب جنود الاحتلال"، هذا ما قاله الصحفي محمد عتيق لمراسل وكالة "شمس نيوز" بعد ساعات من إصابة زميله حازم ناصر.
بصعوبة دارت عجلات إحدى سيارات الاسعاف للخلف حتى وصلت إلى حازم الذي ركض رغم إصابته داخل الاسعاف، فورًا ودون تردد انطلقت السيارة وسط زخات من الرصاص لنقل حازم إلى المستشفى لتلقي العلاج اللازم.
نُقل الزميل حازم بصعوبة؛ لكن ساحة الميدان لم تهدأ، فقد زاد جنود الاحتلال من الضغط على الزناد؛ لتحاصر العديد من الصحفيين والمسعفين داخل جمعية "كي لا ننسى" على دوار العودة مقابل مدرسة الوكالة بمدخل مخيم جنين.
"استمر إطلاق النار صوبنا مدة ساعة تقريبًا، في تلك الفترة كان المسعفون يتواصلون مع مدير الهلال الأحمر بهدف التنسيق مع الارتباط الفلسطيني لإخراجنا من المكان دون أن نفقد أحدنا"، هذا ما أشار إليه الصحفي عتيق، الذي روى المشهد بالتفاصيل الدقيقة.
ووثق الصحفي عتيق حالة الخوف التي أصابت المسعفين، فقد احتمى المسعفون خلف جدران جمعية "كي لا ننسى" قرب مدرسة الوكالة، رغم كل القوانين الدولية التي توفر لهم الحماية؛ إلا أن المحتل يركل بقدمه كل قرارات العالم ويعتبر نفسه فوق القانون.
السترة البيضاء.. كلنا تحت الرصاص!
على ركبتيه كان يجلس داخل جمعية "كي لا ننسى"، وعلامات الارباك والخوف واضحتين من عينيه، بالكاد كان يتحدث ليوصل رسالته إلى مديره، هذا أحد المسعفين المحاصرين على مدخل مخيم جنين، فقد قال: "مش قادرين نوصل للسيارة ولا نستطيع الانتقال من مكان لآخر، تواصلت مع مدير المركز ليجد طريقة لإخلائنا من المكان بشكل عاجل".
في حال رأيت المسعف على بعد نحو كيلو متر، ستعرف تمامًا أنه مسعف يقدم العلاج ولا يشكل خطرًا على حياة جنود الاحتلال، فقد كان يرتدي ملابسه الحمراء الداكنة المميزة بشعار "الهلال الأحمر" والطاقية التي تُشير إلى مهنته الإنسانية.
في تلك اللحظة كانت عقارب الساعة تشير نحو التاسعة صباحًا من يوم الاثنين الموافق 19 يونيو 2023 على دوار العودة لمدخل مخيم جنين، فالصحفيون الذين احتموا داخل جمعية "كي لا ننسى" لم يدركوا أن الصحفي حافظ أبو صبرا وزميله المصور وصلوا للمكان بهدف توثيق جرائم الاحتلال.
لم يكن الصحفي أبو صبرا وزميله المصور يدركا بأن المكان فقد حدث ذلك في ثوانٍ معدودة، نزل المصور من السيارة وخطى نحو الأمام أمتار عدة، كان أبو صبرا داخل سيارته يوثق بهاتفه بعضًا من المشاهد.
لحظات قليلة حتى اخترق صوت الرصاص أذن الزميل أبو صبرا، وعلى الفور نزل من السيارة ليحتمي خلفها، يقول: "نحن في منطقة مكشوفة وعلى بعد 250 متر، نرتدي الدرع الصحفي والطاقية وكل ما يدل على أننا صحفيون لكن الاحتلال يخترق كل القوانين الانسانية والدولية".
يضع أبو صبرا يده فوق رأسه وينزلها قليلًا؛ ليمررها على جسده محاولًا تفقد نفسه إن كان قد أصيب، فالرصاصة الثانية التي وصلت السيارة اخترقت الباب الأمامي وتناثرت شظايا الباب فوق رأسه.
لم يكن أمام الزميل أبو صبرا؛ إلا أن يقود السيارة؛ ليخرج من مرمى الهدف، وفجأة ودون إدراك انطلقت السيارة للخلف حتى وصل لمسافة تصل نحو 250 مترًا؛ ليتفاجأ أنه وصل إلى موقع الاشتباك، وبعد دقائق تمكن من الخروج بأعجوبة.
وبالعودة إلى الزملاء الصحفيين والمسعفين المحاصرين داخل جمعية "كي لا ننسى" فقد تمكن الزملاء بعد نحو ساعة من إطلاق جنود الاحتلال الإسرائيلي النار صوبهم، وما نتج عنه من إصابة الصحفي حازم ناصر، إخلاء المكان، إذ قال الزميل عتيق: "إن خروجهم دون إصابات أو شهداء كان معجزة".
الجميع تحت الرصاص!
لم ينتهِ مشهد استهداف الصحفيين بعد، فقد استمرت معركة مخيم جنين لأكثر من 9 ساعات متواصلة، وما تعرض له الصحفيون لم يضعف عزيمتهم أو يكسر إرادتهم أو يمنعهم من أداء رسالتهم الاعلامية والوطنية.
بعد ساعتين ونصف تقريبًا من الاستهداف الأول على مدخل مخيم جنين، انتقل الزميل الصحفي حافظ أبو صبرا ومجموعة أخرى من الزملاء الصحفيين إلى بناية سكنية في شارع حيفا إذ تبعد عن موقع الاشتباك في حي الجابريات داخل المخيم نحو كيلو متر تقريبًا.
مارس الصحفيون تغطيتهم الاعتيادية بنقل جرائم الاحتلال كل حسب موقعه ووسيلته الاعلامية، واستمر ذلك لمدة ساعة تقريبًا دون أي خطر، وفجأة أثناء إجراء الزميل أبو صبرا مقابلة لإذاعة محلية صرخ الزملاء بصوت يحمل الكثير من معاني الخوف والقلق: "انزل يا حافظ الجيش بطلق النار علينا".
سمع الصحفيون صوت الرصاص فوق رؤوسهم كأنها صوت "صافرة بداية المباراة"، انبطح الجميع أرضًا واقتربوا من بعضهم البعض، التقط أحدهم فيديو ليوثق جرائم الاحتلال وأخر قام بالاتصال بالوسيلة الاعلامية التي يعمل بها يخبرهم عن تعرضه لإطلاق نار، وأخرون نشروا الخبر على منصات التواصل.
الرصاص لم يتوقف؛ لكن يتساءل الصحفيون من أين يأتي هذا الرصاص، نحن على بعد كيلو متر من موقع الاشتباك، في تلك الثانية تجرأ حافظ وزميله ليث برفع رؤوسهم من "سور البناية السكنية".
أطلَّ الصحفيان من سور البناية، وفي هذه اللحظة لمعت الشمس في عينيهما؛ ليكتشفا أن قناصًا إسرائيليًا يرتدي خوذته العسكرية من داخل المخيم كان يطلق النار صوبهم، يقول أبو صبرا: "استمر الحال ونحن نائمون على ظهورنا لمدة 10 دقائق تقريبًا، ثم زحفنا وخرجنا من البناية".
مشهد استهداف الصحفيين من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي داخل مخيم جنين وفي جميع الأراضي الفلسطينية لم يتوقف مطلقًا، إذ أن استمرار الاحتلال باستهداف الصحفيين واغتيالهم كالصحفية شيرين أبو عاقلة وغفران وراسنة دون محاسبة، دليلٌ قاطعٌ على ركل الاحتلال لكل القوانين الدولية والانسانية لحماية الصحفيين والمسعفين.