تبذل مصر جهوداً حثيثة من أجل ترتيب لقاء فلسطينيّ قيادي، ومن خلفها قوى إقليمية وربما دولية، في ضوء مبادرة قيادة السلطة الفلسطينية إلى هذه الدعوة، وهي دعوة استقبلتها القوى الفلسطينية، وخصوصاً حركتي الجهاد وحماس، بكثير من البرود، في ظل عدم توافر معطيات الحدّ الأدنى لعقلية الشراكة، وتعمّق الانقسام بين الضفة وغزة.
بدا خطاب حماس والجهاد أقرب إلى إجابة الدعوة، مع دخول الطرف المصري على الخط، باعتباره بوابة غزة الوحيدة، من جهة، ومن جهة أخرى بسبب قدرة مصر على تطويع الواقع الفلسطيني الرسمي، ومعه الموقف الدولي، في اتجاه فضاء يمكن لغزة أن تتنفس منه، وهي تخضع لحصار خانق منذ عقد ونصف عقد من الزمن.
لكن هذه الدعوة إلى لقاءٍ قد يتم بالفعل، لا يُتوقع منها أن تحمل بشائر للشعب الفلسطيني، باعتبارها دعوة لا يتجاوز أفقها الراهن مشاريع اقتصادية، لا تتباين عما جاء في نتائج اجتماع الكابينت الإسرائيلي، من حزمة تسهيلات اقتصادية ورمزية للسلطة في الضفة الغربية لمنع انهيارها، كما ورد في بيان حكومة الائتلاف اليميني في "تل أبيب".
منذ معركة سيف القدس، وما حققته من دفعة استراتيجية على مستوى مشروع المقاومة، تشهد المنطقة تحولات جديدة لأفق النضال الفلسطيني، في اتجاه تطويعه ليبقى في سقف تفاصيل الحياة اليومية للمواطن، سواء في غزة أو الضفة، في وقت يزداد المشروع الإسرائيلي الاستيطاني شراسة، مع حملات عسكرية وأمنية إسرائيلية هجومية تأخذ في الاتساع، على رغم تأكُّل قدرة الردع الإسرائيلي، في جانب حيويّ منها.
ويتصل تأكّل قوة الردع الإسرائيلية، على رغم سيل حملات "تل أبيب" العسكرية والأمنية، بالفضاء الذي خلقه تعاظم قوة الجهاد الإسلامي، وتصدرها المشهد الميداني في غزة والضفة، مع قوة الضربات النوعية لحماس في شوارع المستوطنات، وآخرها قرب بيت سموتريتش، والدور الحيوي لكتائب الأقصى في تحالفها الميداني مع كتيبة جنين، في ظل التسخين الآخذ في الازدياد عند الجبهة اللبنانية منذ رمضان حتى نصب الخيمتين.
يستطيع المتابع أن يلاحظ أن هذه الدعوة إلى لقاء الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، تأتي في توقيت يحاول الإسرائيلي الاستفراد بحركة الجهاد الإسلامي، سواء عبر الهجوميّن الأخيرين على غزة في آب/أغسطس 2022، ثم في حزيران/يونيو 2023، أو في الهجمات المتتالية على جنين، وخصوصاً الاجتياح الأخير في معركة بأس جنين.
وهنا، هل يأتي توقيت دعوة اللقاء ضمن هذا المعطى الأساس، للتضامن مع حركة الجهاد على سبيل المثال، أو بهدف توفير حائط صدّ في مواجهة التغوّل الإسرائيلي، لمنع الاستفراد بها، أم يراد احتواء جذرية الجهاد في مواجهة الإسرائيلي، وإدارة الميدان بهدف استثماره في تحسين الواقع الاقتصادي في غزة من خلال مشروع غاز مارين، وفي الضفة من خلال تعديل اتفاقية باريس، مع إعادة الدعم المالي الخليجي، وخصوصاً السعودي منه، وهو دعم توقف منذ خمسة أعوام؟
تمر القضية الفلسطينية في انقسام حادّ منذ احتدم الصراع بين حركتي فتح وحماس، بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية، ثم سيطرتها على غزة، وهي سيطرة سمحت بتعاظم قوة المقاومة الصاروخية التي دكت "تل أبيب" عدة مرات، لكن ذلك جعل الفجوة تتسع أكثر فأكثر بين السلطة الفلسطينية، التي ما زالت تراهن على حل الدولتين، وبين حماس، التي تراكم قوتها تحت الحصار في غزة.
خاضت حماس في غزة عدة حروب مع الإسرائيلي، كان آخرها عام 2021، وهي تتصدّر عمليات نوعية متباعدة في الضفة، على رغم سياسة التنسيق الأمني المتبعة عند السلطة، والتي تنتج منها اعتقالات سياسية تطال ناشطين في حماس والجهاد بصورة دائمة، وكان آخر هذه الاعتقالات طال مجموعة من قادة كتيبة جبع في سرايا القدس، في توقيت حساس، لحظة الاجتياح الإسرائيلي لجنين، في وقت كانت كتيبة جبع تحاول مساندة جنين ضد الاجتياح، على نحو تسبب بعدة احتكاكات سلبية بين جمهور الكتيبة وأجهزة السلطة الأمنية.
تشظي المشهد الفلسطيني منذ الانقسام، وما قبله، على رغم كل محاولات الصلح الداخلي، خلق حالة من اليأس الشعبي تجاه الفصيلين الرئيسين، على رغم ثبات مكانتهما التنظيمية كمحدد اصطفافي، وهو يأس ساهم في تعاظم قوة الجهاد، وخصوصاً في نأيها عن المحاصصة الرسمية، وثباتها على خط المواجهة الحصري مع الإسرائيلي، لكن هذا التعاظم ما زال يراوح بين غزة وشمالي الضفة، ويكاد يقتصر على الجانب العسكري، ليبقى التشظي الفلسطيني سيد الموقف.
يرتبط التشظي الفلسطيني بحالة الاصطفاف الحادة بين مشروعين سياسيَّين، مشروع يدعمه الأميركي، لكن ليبقى في حد الحياة من دون أن يقوى عُوده، ومشروع يحاربه الأميركي، وإن كان يحاول احتواءه في الآونة الأخيرة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لكن جذرية الجهاد تنغّص عملية الاحتواء. ولعل هذا ما يفسر اضطراب الحالة السياسية تجاه غزة والضفة على السواء، وهو ما استدعى شن هذه الحروب المتلاحقة ضد حركة الجهاد، ومحاولة عزلها عن سائر الطيف.
ويرتبط هذا التشظي الفلسطيني أيضاً بغياب عقلية الشراكة في الوسط الحزبي الفلسطيني، فالحزب صار أشبه بالقبيلة أو الدولة أو العقيدة، وهو غياب ساد الواقع الفلسطيني نتيجة عملية التعبئة العدائية، مع تسعير الصراعات الداخلية، حتى في العمليات الانتخابية التي حدثت مؤخراً في الجامعات، وساد فيها العقل الإقصائي التهريجي، الأمر الذي منع تأثيراتها الإيجابية، وهي تكمن في الأساس في حرية اختيار الطلبة ممثليهم وفق آليات رسمية، لكن الجو العدائي جعلها تظهر كحرب داخلية، أكثر من كونها حالة تنافسية.
نظرة متفحصة في الخطوات الفعلية للحكم في الضفة وغزة، مع طبيعة الخطاب السائد عند كلتيهما، مع الفارق بين الفينة والأخرى، بطبيعة الحال، تنبئ بمدى رسوخ العقل الإقصائي العدائي، وهو يتجاوز حالة الشعور النفسي، بين جمهور الطرفين، لما هو تضارب المصالح الفئوية الرسمية، وحديّة التباعد السياسي، وهي مصالح لها فضاء إقليمي يتعزز كل يوم، ويساهم في تعميق التباعد.
على رغم هذا البون من التباعد الفلسطيني الداخلي، فإن مجرد اللقاء يحدّ تسعير حالة العداء السائدة، ويفتح الأفق للحظة ما قد تأتي لتغليب المصلحة الفلسطينية العامة، عند جميع الأطراف، في المحافظة على ديمومة نبض القضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة، وإنقاذها من أتون الحلول الموقتة والمشاريع التصفوية والعقلية الإقصائية.