" يا جبل ما يهزك ريح".. كنت طفلاً صغيراً حينما كان يرددها رئيس الشعب الفلسطيني آنذاك الراحل ياسر عرفات، ولم أعِ لحجم هذه الكلمة أو أي كلمة أخرى تخرج من فيه هذا الزعيم، فعندما كبرت أيقنت أن الزعماء ولدوا من رحم أمهاتهم زعماء وليس اصطناعاً كما في زمننا هذا، حقاً نفتقد لمثل عبارات كانت تهز كيان الاحتلال الإسرائيلي، سواء من عرفات أو غيره من زعماء الفصائل الراحلين.
نستذكر زعماء فلسطينيين يشار إليهم بالبنان، كعز الدين القسام وعبدالقادر الحسيني وأحمد الشقيري وأبو جهاد الوزير وياسر عرفات وفتحي الشقاقي وأبو علي مصطفى وأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، إسرائيل ودول غربية كانت تحسب لهم ألف حساب بل وينصتون إلى تصريحاتهم وخطاباتهم السياسية.
هؤلاء الذين تم ذكرهم، كل منهم يحمل عقلانية وفكرا سياسيا مختلفا عن الآخر، فمنهم من بدأت فكرته في مقاومة الاحتلال، ومنهم من ينظر بفصل الدين عن الدولة ومنهم من أراد نشر الإسلام دون المقاومة، ومنهم من ربط الإسلام بالجهاد في سبيل الله، ولكن كان اهتمام كل منهم موحدا في دحر الاحتلال الغاصب عن الأرض الفلسطينية العربية..
اليوم وفي ظل ما يحصل داخل البيت الفلسطيني منذ العام 2007 حتى يومنا هذا من انقسام بغيض، وعدم تطبيق أي من الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها لتحقيق المصالحة الفلسطينية، وما يشهده الوضع الراهن من خلافات توصف بـ"الشرسة" بين قطاع غزة والضفة الغربية، بالإضافة إلى تدهور وتراجع القضية الفلسطينية وانحرافها عن مسارها الحقيقي، نفتقد لمثل هؤلاء الزعماء، فلم تعد لنا كلمة واحدة نسير خلفها، والبوصلة التي كانت متجهة نحو القدس تم حرفها، فالمسجد الأقصى والمدينة المقدسة يشهدان يومياً أنواعا من الاعتداءات والتغييرات الديمغرافية من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي دون الاكتراث إلى ذلك من فصائلنا وقوانا الفلسطينية، ناهيك عن الوضع المزري في قطاع غزة وما يشهده من أزمات تلو الأخرى دون النظر إلى معاناة سكانه.
فرئيسنا محمود عباس وزمرته يخرجون بين الفينة والأخرى بتصريحات ما أنزل الله بها من سلطان، ناهيك عن مشاكل حركته (فتح) التي يقودها والتي ليس لها أول ولا آخر، ولا نستغرب أيضاً من مطالباته في الجامعة العربية بعاصفة حزم لضرب قطاع غزة، فلا تكفيه التنازلات التي قُدمت لإسرائيل منذ بدء مسار مفاوضات التنازل والعار، فهذا نهج سلكه عباس منذ أن تم انتخابه رئيساً للسلطة والشعب الفلسطيني في 15 يناير 2005.
أما حماس المسؤولة عن إدارة قطاع غزة، ومنذ حسمت أمره أواسط عام 2007، لم تستطع لهذه اللحظة أن تحقق أي شيء ملموس على أرض الواقع لأبناء شعبها، بل زادت الطين بلة، في ظل ثلاثة حروب متتالية حرقت الأخضر واليابس في القطاع، ناهيك عن خلافاتها التي لا تعد ولا تحصى مع حركة فتح والضفة الغربية، وليس أخيراً بمشكلاتها الأمنية مع "مصر" بعد اتهامها بالتفجيرات الحاصلة في سيناء وانتمائها لجماعة الإخوان المسلمين، الأمر الذي دفع مصر لإغلاق معبر رفح المنفذ الوحيد لأهالي القطاع منذ أربعة أشهر.
أما بالنسبة للفصائل الأخرى كالجهاد والجبهتين وغيرها، فليس لديها ما تقوله، فكل فصيل ينحاز إلى نفسه، ولا تمتلك قرارا أصلا سوى المطالبات والاستنكارات والشجب بين حين وآخر، سئمه الشعب، وضاق به ذرعا، فلو كان لدى هذه الحركات رأي لما وصلنا لهذه الحالة التي نعيشها الآن، ولو كان لهذه الفصائل مصلحة في إنهاء الانقسام لأنهته من أول يوم. بالطبع هي فصائل سلبية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إذ ماذا فعلت الفصائل وقياداتها في القاهرة أثناء مباحثات التهدئة غير المباشرة خلال العدوان الإسرائيلي على غزة العام الماضي؟
مأساة وراء مأساة.. قدسنا تنتهك.. ضفتنا تآكلت بغلاة المستوطنين والاستيطان الذي يتفشى كالسرطان، وغزة التي لم يبق فيها طعم للحياة، تغرق في بحر المعاناة والمأساة، في كل شارع بيت مدمر وفي كل منزل شهيد أو أكثر، فلا موظف يتقاضى راتباً ولا عائلة لها بيت يؤويها، ولكن قياداتنا الميمونة تتربع على كراسيها إلى أن تلاقي ربها، وهذا ما كان يقال حقيقة بأن " غزة يوم لفتح ويوم لحماس ويوم القيامة"، فهذه العبارة لها مدلولات كثيرة، يفرح بسماعها الحمساوي حين تذكر.
حقاً.. لقد بلينا بمثل هذه القيادات والحق أنهم لا يستحقون كلمة قادة، لأنهم تطفلوا على الشعب للحصول على هذا المنصب أو هذه الكلمة، ولأن القائد الحقيقي هو الذي يولد بشخصيته الفذة، وكما ذكرنا سابقاً أن القادة حقاً هم من توحدوا رغم اختلاف أفكارهم لدحر الاحتلال، فكانت بوصلتهم تحرير كل فلسطين.
اليوم.. نفتقد لزعيم فلسطيني كالختيار الذي حمل غصن زيتون، كالشيخ المقعد الذي حمل قرآنا في صلاة الفجر ونادى بصوته المتحجرش " واعتصموا بحبل الله جميعا"، كمعلم رفع قلمه فوق همم الجبال وكتب " فلسطين الأم والإيمان"، نفتقدهم في هذه الأيام التي ما زلنا نقول فيها إن هناك حكومة في غزة وأخرى بالضفة، فنقول لقادتنا الآن: الزعماء هم الذين يفرضون شروطهم على الغير، فهل هناك اليوم زعيم فلسطيني أو زعماء قادرون على فرض تلك المطالب على المجتمع الدولي كما فعله هؤلاء؟ أشك في ذلك. لكن شعبنا وأمتنا ولادة للزعماء عبر التاريخ، وسيأتي ذلك اليوم.