طبع قُبلة على جبين والدته، وركض مسرعًا فور وصول رسالةٍ إلى هاتفه النقال، ولسانه يردد: "أدعي لي يا أمي بالنصر أو الشهادة"، في تلك اللحظة كان صوت الرصاص يعلوا شيئًا فشيئًا، وقصف البيوت والطرقات لم يتوقف؛ لكن ذلك لم يمنعه من أداء واجبه الديني والوطني في تلبية استغاثة أصدقائه المحاصرين بجنود الاحتلال.
غادر الفتى علي الغول (17 عامًا) من مواليد مخيم جنين شمال الضفة المحتلة، المنزل تاركًا قلب والدته يشتعل نارًا، أما والدته فبخفة وسرعة عالية صوبت نظرها الثاقب عبر النافذة؛ لتُكحل عينيها برؤية نجلها الذي يركض كالبرق تقول: "كأن الملائكة تحمله لتشيعه إلى الجنان قبل أن يُحمل على أكتاف أصدقائه".
كانت حينها عقارب الساعة تُشير إلى الثامنة والنصف تقريبًا من يوم الاثنين (3-7-2023) عندما وصل نجلها ليلاً إلى البيت مرهقًا؛ لكنه أبى إلا أن يحصل على "حمامٍ ساخنٍ" ويرتدي ملابسَ جديدة، ويتناول الطعام الذي كان عبارة عن "تفاحة" واحدة، وبعدها اختطف قلب والدته -التي كانت تراقب تحركاته في المنزل- وبابتسامته الراقية رسم الفرحة على شفتيها.
جلس عليٌ مع والدته ما يقارب الـ (5 دقائق) لم تتمكن والدته من تكحيل عينيها برؤية صغيرها، الذي كان يوزع الابتسامات على أشقائه وشقيقاته في آخر لحظات حياته، وفجأة وصلته رسالة عبر هاتفه المحمول تُشير إلى أن مجموعة من المقاومين حُوصروا في مسجد الأنصار داخل مخيم جنين.
انتفض الثائر والمقاوم علي الغول، مودعًا والدته: "مع السلامة يا إمي سأذهب لإنقاذ أصدقائي ومساعدتهم ادعي لي بالنصر أو الشهادة"، فورًا تحسست جسده الطاهر، كانت أناملها ترتجف خوفًا عليه؛ لكنها كانت تدرك جيدًا خيار نجلها قبل وقت من الزمن.
استعادت والدته بعضًا من شريط ذكرياتها مع صغيرها "علي" والتي لن تنساها مطلقًا؛ تقول: "منذ سنتين تقريبًا كان علي يعود في ساعات الليل إلى المنزل وملابسه مغبرة وعينيه حمراوين، ويعاني من آلام شديدة كانت تُسببها المواد المتُفجرة التي كان يستخدمها".
"كان علي واحدًا من بين المقاومين الذين صنعوا العبوات المتفجرة في مخيم جنين من مواد بدائية؛ لكن تأثيرها كان كبيرًا وفعالًا بإعطاب العديد من الآليات العسكرية الإسرائيلية" وفقًا لقول والدته التي عبرت عن فخرها واعتزازها بما فعله نجلها وما يردده أصدقاءه عن أفعاله التي تفوق عمره.
لحظات قليلة مع الذكريات الجميلة لا يمكن أن تنفصل عن الواقع فتعود لتُكمل الحكاية: "قبل أن يغادر علي المنزل، كان يحمل على كتفه "شِوالاً" مليئاً بالعبوات المتفجرة، ولاحقا زرعها في شوارع وأزقة مخيم جنين بمساعدة أصدقائه الذين أكدوا بأن علي شارك معهم في مواجهة الاحتلال من نقطة صفر".
حافظ علي على سرية عمله في المقاومة ولم يخبر والده مطلقًا بأي عمل له، خشية من الضغط عليه لدفعه إلى الالتفات إلى التعليم أو الزواج بدلًا من مشروع الشهادة الذي اختاره نجله منذ ميلاده، يقول والده لـ"شمس نيوز": لم أكن أعلم أن علي يصنع المتفجرات، ولم أعرف بأنه يصد اقتحامات قوات الاحتلال على مدار السنوات الماضية".
لم يدرك الحاج هاني الغول بأن تسمية نجله الصغير علي بهذا الاسم نسبة إلى نجله الشهيد الأول عام (2004) سيجعله يحمل نفس المشروع المقاوم، والفكر الجهادي، والإرادة والتصميم على صناعة المتفجرات لمواجهة المحتل.
عاش علي حياة مليئة بالأحداث التي دفعته ليحمل اللواء بعد استشهاد شقيقه، فغالبية أصدقائه في مخيم جنين إما استشهدوا أو تم أسرهم يقول علي لوالدته: "لن أرتاح يا أمي حتى ألتحق بركب الشهداء ولن أكمل تعليمي حتى نعيش بحرية وكرامة وعزة".
في تلك اللحظة عادت والدة علي الأمر الواقع عندما خرج نجلها الصغير من المنزل حاملًا على كتفه "شوالاً" مليئاً بالمتفجرات، متجهًا للمشاركة في المعركة لإنقاذ أصدقائه المحاصرين في مسجد الأنصار، كانت الأجواء مليئة بطائرات الاستطلاع، وقناصة العدو احتلت المباني المرتفعة في مخيم جنين.
موعدٌ مع الشهادة
الأم الفخورة بالتحاق نجلها بركب المقاومة تجلس على الأريكة تنتظر خبرًا يخفف آلامها ولوعة الغياب، ترفع أكفها متضرعة إلى الله تعالى بأن ينصره ويحقق أمنيته، ويتردد على مسامعها حديث جانبي بين بناتها: "يقال في إصابة خطيرة قرب مسجد الأنصار".
تردد نبأ الإصابة في أذنها كالصاعقة، وارتجف جسدها، ومالت برأسها صوب بناتها طالبة هاتفها النقال، وبأناملها الناعمة التي تضرب بعضها بعضًا من صعوبة الموقف، أخذت تُقلب صفحات منصات التواصل، وفجأة ظهر مشهد مرعب.
شابان يطلقان النار على جنود الاحتلال أحدهما يرتدي ملابس للتو كانت في "الدُرج"، تساقطت دموعها كالنهر الجارف، وفجأة خرجت صرخة من أعماق القلب، سمع صداها كل مخيم جنين، ركضت الأم خارج المنزل باتجاه المستشفى للتأكد من حقيقة ما رأته.
وفقًا للمشهد الذي رأته والدة "علي" فإن الشابين أصيبا برصاص قناص إسرائيلي قاتل، وسقطا أرضًا قبل أن يتمكن المقاومون من نقلهما لمنطقة آمنة، فورًا استعادة والدة "علي" اللحظات الأخيرة لنجلها في المنزل واستذكرت ملابس نجلها الجميلة، تقول وصوتها مليء بالحزن والألم: "ارتدى علي بلوزة بيضاء وبنطال لونه بيج وعندما شاهدته عرفته فورًا".
أبلغت الأم بناتها بالبقاء في المنزل بانتظار والدهم أما هي فقد خرجت مسرعة صوب المستشفى وهناك تمكنت من رؤية نجلها المسجى بالدماء قبل أن ينقله المقاومين إلى مكان آمن قائلة: "كان جيش الاحتلال يبحث عن جثمان علي وكاد أن يحتجزه لولا تدخل أصدقاءه الذين أخفوه حتى انسحاب قوات الاحتلال".
لم تدرك أم "علي" أن خروجها من المنزل سيكون محفوفًا بمخاطر كبيرة على بناتها وزوجها المريض تقول: "عندما خرجت إلى المستشفى لم أتمكن من العودة إلى المنزل لأن قوات الاحتلال حاصرت المخيم بعدد مهول من الآليات والجنود الإسرائيليين".
علي.. يرعب العدو حياً وشهيداً
لكن معاناة عائلة "علي" بدأت فعليًا عندما اغتال القناص الإسرائيلي مهندس "العبوات المتفجرة"، راقبت طائرات الاحتلال منزله في "حي الدمج" وما أن وصل أشقاؤه ووالدهم إلى المنزل تقدم جنود الاحتلال بآلياتهم العسكرية وجنودهم المدججين بالسلاح مقتحمين المنزل.
صوت انفجار ضخم هز المنزل، ودخان أبيض يتصاعد من بين الجدران، وأصوات مزعجة شاذة تصرخ دون رحمة بوجه الأطفال والبنات: "أجلسوا هنا.. لا تتحركوا.. ارفعوا أيديكم.. أين والدكم؟ أنتم في هذه الغرفة لا تغادروها؟، ومع ذلك كان الجنود يطلقون الرصاص لنشر الرعب بين أفراد عائلة عليَّ.
استخدم جنود الاحتلال في تلك اللحظة القوة المفرطة، ضربوا والد علي بشكل مبرح أمام أطفاله، كانت الدموع تنهمر من عيونهم وصراخهم يرتفع من الموقف المرعب، دقائق مضت ولم يبقَ المنزل على حاله فقد فجر جنود الاحتلال جميع أبوابه وعاثوا فيه الفساد والخراج والدمار.
وتمكنت عائلة علي بعد ساعات من الحصار داخل المنزل، بأن تتنفس الصعداء عندما انسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلي من مخيم جنين تاركة دمارًا كبيرًا في المخيم والبنية التحتية، تقول والدة علي: "بعد انسحاب قوات الاحتلال بات المنزل لا يصلح للعيش، ننام في الليل بفندق في حي البطيخة وفي النهار نعود إلى المنزل داخل المخيم لمحاولة إصلاحه".
وودعت والدة علي نجلها بالدموع والزغاريد والدعاء إلى الله تعالى، مؤكدة أن مخيم جنين سيبقى شامخًا وسيولد الكثير من الأبطال ليحملوا راية الجهاد والمقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي حتى التحرير باذن الله.