عزّز حزب الله قوته العسكرية خلال الفترة (2000-2006)، التي تلت الانسحاب الإسرائيلي من جنوبي لبنان عام 2000 بصورة كبيرة، وفي مستويات متعددة، بحيث نجح الحزب، على طول الحدود الشمالية، في بناء مجموعة مكونة من أكثر من 12 ألف صاروخ بحوزته، والتي يغطي مداها شمالي فلسطين المحتلة بأكمله، بما في ذلك الخضيرة وربما غوش دان، ناهيك بتنفيذه عدة عمليات عسكرية ضد "الجيش" الإسرائيلي، وصلت إلى أكثر من 20 هجوماً عسكرياً حتى يوم 12 تموز/يوليو 2006، الأمر الذي جعل حرب لبنان الثانية (تموز 2006) تطرح تساؤلاً إسرائيلياً، مفاده: كـيف سـمحت "إسرائيل" لتنظيمٍ معادٍ، مثل حزب الله، ببناء مثل هذه القوة الكبيرة في غضون 6 أعوام؟
العمليات الضخمة والمتواصلة لإطلاق الصواريخ، وقذائف الكاتيوشا صوب مناطق شمالي فلسطين المحتلة، على رغـم النشـاط الجوي والأرضي المتنوع، والذي قامت به "إسرائيل" ضد حزب الله وبنيته التحتية، تشكل دلالةً واضـحةً علـى مـدى القوة الهائلة التي تمكّن حزب الله من تكديسها خلال هذه الأعوام.
وأكد الباحث في معهد الأمن القومي الإسرائيلي، شلوم زاكي، أن التساؤلات بشأن ردود الفعل الإسرائيلية السلبية، حيال نشاطات حزب الله، "من المستحيل ربطهـا، بغياب معلومات، بشأن طبيعة نشاط حزب الله، والأخطار الكامنة فيها تجاه "إسرائيل"، وليس من المعقول الافتراض أن الزمن كان يعمل لمصلحة "إسرائيل"، وفي الإمكان تحقيق أهدافها حيال التنظيم، من دون اللجوء إلى القوة".
حقيقة الأمر تقول إنه نتج، بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوبي لبنان عام 2000، توازن شبه ردعي بين حزب الله و"إسرائيل"، تعتمد معادلته على ردع "إسرائيل" حزب الله عن الاستمرار في استنزاف المستوطنات الإسرائيلية، وفي المقابل استطاع حزب الله ردع "إسرائيل" عن القيام بعملية هجوم شامل عسكري، بهدف هزيمة الحزب.
لذا، صُممت الجبهة الإسرائيلية السياسية الردعية على "سياسة الاحتواء"، المتمثلة باستيعاب تهديدات حزب الله، والامتناع عن ردود الفعل، والتي من الممكن أن تؤدي إلى حرب مفتوحة، والاقتصار على عمل عسكري عقابي محدود، معتمد على النيران الموجهة.
ارتكزت سياسة الاحتواء الإسرائيلية على عدة عوامل، أهمها ما ذكره الباحث الإسرائيلي يائير عفرون، وفحواه "التهديد العسكري العقابي المتبادل من جهة، والعوامل السياسية الاجتماعية من جهة أخرى". وسعت الحكومة الإسرائيلية وجيش الاحتلال لعدم تعطيل الحياة المدنية في الشمال، والعمل على استعادة نسيج الحياة المدنية، وازدهار الاقتصاد للمستوطنات هناك، بعد فترة طويلة من الاضطراب (قبل انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان).
على هذه الخلفية، لم تجد "إسرائيل" أي جدوى في الرد المكثف ضد حزب الله وتصعيد الموقف. علاوة على ذلك، كانت هناك تلميحات أولية، في عام 2005، إلى أن النظام السياسي في لبنان سيتغير إلى الأفضل، من وجهة نظر المصلحة الإسرائيلية مع خروج القوات السورية من لبنان، وفقاً لقرار مجلس الأمن (1559)، الذي منح "إسرائيل" بارقة أمل على تشكل ضغط لبناني داخلي لسحب سلاح حزب الله، ناهيك بالخوف الإسرائيلي من فتح جبهة قتال ثانية، في الوقت الذي كان "الجيش" الإسرائيلي منخرطاً في الجبهة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة ("انتفاضة الأقصى").
أضف إلى ما سبق أن القيادتين السياسية والعسكرية الاسرائيليتين اعتقدتا أن الردع الإسرائيلي قادر على منع اندلاع حرب مع حزب الله، الأمر الذي أدى إلى آثار سلبية مهمة في جاهزية "الجيش" الإسرائيلي، الذي لم يعتقد أن هناك حاجة إلى شن حملة عسكرية واسعة النطاق في لبنان.
وكما أشار الباحث الإسرائيلي الاستراتيجي، إفرايم عنفر، في شرحه أسباب الفشل الإسرائيلي في حرب لبنان الثانية، فإن "الافتراض السائد في ذلك الوقت هو أن حرباً تقليدية واسعة النطاق، على طول حدود إسرائيل، غير متوقعة، وأن إسرائيل في المستقبل ستشن حروباً صغيرة، بصورة أساسية".
من الممكن أن نخلص إلى أن حرب لبنان الثانية كانت نتيجة تأكُّل طويل الأمد في الردع الإسرائيلي تجاه حزب الله من جهة، ومن جهة أخرى عدم قدرة "إسرائيل" على الذهاب إلى معركة ضد حزب الله في تلك الفترة، الممتدة من عام 2000 إلى عام 2006، لكن عندما تغيرت الظروف، وخصوصاً مع انتهاء انتفاضة الأقصى في الجبهة الفلسطينية، والتغير السياسي في الحكومة الإسرائيلية، وصعود رئيس الوزراء، إيهود أولمرت، الذي لا يعاني عقدة لبنان، كما كان يعانيها رئيس الوزراء السابق، أرئيل شارون، وقررت "إسرائيل" أن تخوض حرباً ضد حزب الله، تفاجأ الجيش الإسرائيلي وحكومته بأنهما لم يستطيعا تحقيق أي إنجاز عسكري أو سياسي أمام حزب الله على مدار 33 يوماً من القتال الشرس، بل سجلت حرب تموز نفسها كهزيمة وفشل إسرائيليَّين، لم تتعافَ منهما "إسرائيل" ولا مؤسستها العسكرية حتى الآن.