غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

تاهت الكلمات بين "عظَّم الله أجركم" و"مبارك"

الطالب مؤيد شراب يُسعد روح والده في قبره.. فرحة وسط أنين الألم!   

الطالب المتفوق مؤيد شراب
شمس نيوز - وليد المصري

يتوشح المكان كله بالألم، جدرانه الحزينة المعلق عليها لافتات مكتوب فيها بالخط العريض: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ " تَكفي وحدها لتروي حكاية المصاب الجلل.. موكبٌ يأتي وآخر يخرج في صفوف المعزين الذين تلهج ألسنتهم بـ "عظَّم الله أجركم في فقيدكم".. في صفوف المستقبلين للعزاء يقف مؤيد ابن الثامنة عشر ربيعاً، وبصوته الضعيف الذي تظهر عليه نبرات اللوعة وقلبه الذي ينبض حزناً، يرد: "شَكَر الله سعيكم".. في هذا الموقف نستحضر خشوعنا، وتصمت أفواهنا وتقشعر أبداننا، في حضرة هذا الموقف فقط تسقط المفردات والكلمات، ولا يبقى لنا بُدٌّ في الكتابة أو التعبير.. وبينما هو كذلك إذ اهتز الهاتف وعلا صوت رنينه، أخرجه مؤيد من جيبه، وإذ به يقرأ: "مبارك تفوقك في الثانوية العامة وحصولك على معدل 97% في الفرع العلمي".     

في تلك اللحظة، لم يتمالك مؤيد نفسه، فأطلق العنان لدموعه، وخرَّ ساجداً، شاكراً لربه، حامداً له في السراء والضراء، وفي قرارة نفسه يقول: "لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد حين الرضا، ولك الحمد بعد الرضا".. هل تعملون ما أصعب شعور في الحياة؟ أن تأتيك قمة الفرح وأنت في قمة الحزن، ذلك قدر الله، فما أدق أقدار الله، وما أبهى حكمته!

مؤيد محمد راغب شراب، من مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، اجتاز الثانوية العامة "التوجيهي" بتفوق باهر وحصل على معدل 96.9%، بالرغم من الظروف الصعبة التي مرَّ بها في خضم العام الدراسي، بعد اكتشاف تفشي المرض العُضال "السرطان" في جسد والده، الذي غيَّبه الموت قبل يومين فقط من إعلان نتائج الثانوية العامة في فلسطين لهذا العام 2023م.

ليلة الإعلان عن النتائج، أبى النوم أن يزور عيون مؤيد، فبقي مستيقظاً يترقب حتى موعد النتيجة، وسط حالة من اللاشعور، متسائلاً في داخله: "أأفرح بنتيجتي؟ أم أحزن لتزامنها مع عزاء والدي؟ أم أواسي دمعة أمي؟".. توقف مؤيد عن الحديث ليأخذ نفساً عميقاً، أكمل بعده قائلاً لمراسل "شمس نيوز": "أصبحت مشاعري مختلطة، وأدركتُ فعلاً أنني في جو فرحة وسط أنين الألم.. يبدو أن المصاب غطى على الفرح، لدرجة أنني كتبتُ على مواقع التواصل الاجتماعي عبارة: أنا إنسان لا شعوري حالياً".   

وبتنهيدة عميقة وعينان تتساقط منها الدموع بغزارة، يُفسِّر حالة اللاشعور: "توقعتُ أن يكون معي أبي في هذا اليوم، ولكن الموت كان أقرب إليه".. وإزاء هذه الحالة المختلطة شعر باختلال توازنه، وأغلق عينيه، وجلس على الكرسي، علَّه يلتقط أنفاسه ويلملم جزءاً يسيراً من مشاعره.. أثناء ذلك جاءه صوت أمه الحنون: "رفعت رأسنا وشرَّفتنا"؛ تسليةً لقلبه، وجلاءً لحزنه وألمه.. صوت الأم هو الأمان، إنه صوتٌ يضيءُ العتمات داخل حجرات قلوبنا، يُنعشنا ويروينا، فما أعظم نعمة الأم!

ليلة اكتشاف الخبيث!

في الثاني والعشرين من شهر أغسطس من العام المنصرم 2022، استيقظ مؤيد ووالدته على صوت والده المفاجئ، الذي اشتكى آنذاك من ألم شديد في بطنه، فنقلاه على الفور إلى مجمع ناصر الطبي بمدينة خانيونس، وأجرى له الطاقم الطبي هناك الفحوصات الروتينية اللازمة، في البداية اختلفت تشخصيات الأطباء وآراؤهم، ما استدعى تحويله إلى مشفى الأوربي بالمحافظة، ليكتشف الأطباء هناك تغلغل 3 كتل سرطانية في رأسه، فمكث إثرها في قسم الأعصاب.

في المرحلة الأولى من المرض، سعت عائلة شراب إلى الحصول على تحويلة طبية للعلاج في مستشفيات القدس المحتلة، ولكنهم صدموا برفض الاحتلال الإسرائيلي إجراء التحويلة؛ لأسباب "غير منطقية"، ما اضطرهم للسفر للعلاج في مشافي جمهورية مصر العربية، وإجراء عملية "الخزعة"، -وهي إجراءٌ لإزالة قطعة من النسيج أو عينة من الخلايا من الجسم من أجل تحليلها في المختبر، إذا ظهرت على الشخص علامات وأعراض معينة، ومن خلالها يكتشف إصابته بالسرطان أو غيره من الأمراض-، وبعد أن ساءت حالته استطاعوا الحصول على موافقة لتحويله إلى مشافي القدس، ليخضع هناك إلى 15 جلسة إشعاعيةً مكثفةً، علاوة على تناول الحبوب الكيماوية.

دراسة وسط صوت الأنين!

متنقلاً بين المشفى يُتابع الحالة الصحية التي تأخذ بالتدهور يوماً بعد الآخر، وبين المدرسة التي تتطلب حضور الدروس داخل الغرفة الصفية، شيئاً فشيئاً، قضى مؤيد رحلته مع الثانوية العامة "التوجيهي" على مدار عامه الدراسي.. وقف مع نفسه مرات ومرات، وبدأ الصراع الداخلي في قرارة نفسه يشتد أكثر فأكثر، سيما مع قرب موعد الاختبارات، وبنبرة سيطر عليها الألم الكامن بين ثنايا قلبه يقول: "استحضرتُ الحالة التي أعيشها، منزوعة الراحة، ومعدومة الاستقرار النفسي، أحمل همَّاً كبيراً بداخلي"، وَلَّد هذا الصراع حزناً عميقاً أطلق مؤيد إثره العنان لعينيه لتكسب دموعها التي انهمرت كالمطر، ولكنها كانت بلا صوت.. البكاء ليس دليل الضعف، البكاء يعني أنك كنت قوياً فوق طاقتك!

توقف مؤيد عن الكلام، وكفكف دمعةً سالت من عينيه خلسةً، استنشق الهواء ثم أطلق تنهيدةً تحمل في طياتها معاني الألم الممزوج بالتحدي، وقال: "كان صوت أنين والدي الذي يتفطر القلب من لوعته، يزيدني إصراراً وعزماً وتصميماً على النجاح والتفوق، ويُحفزني لأزداد تعلقاً بكتبي المدرسية"، وقتها قرَّر النضال والكفاح في دروب العلم، ومسحَ من قاموسه كلمة "الاستسلام"، ووضع نصب أعينه هدفاً سامياً عنوانه الأبرز: "يجب أن أفرح والدي وعائلتي مهما كلف الثمن".. إسعاد الوالدين أعظم وفاء لهما وأكبر بر!، حينها بدأ مؤيد يخوض غمار رحلة الجد والاجتهاد بالرغم من حالة مرض والده التي تتصاعد وتيرة خطرها بمنحنى عالٍ، وبصوت مهموسٍ أكَّد: "تعبتُ بمعنى كل الكلمة".. الدموع هبة من الله فغالباً ما نستجمع قوانا المنكسرة بعد البكاء!

فرحة ممزوجة بالألم

فور وصول النتيجة، انطلق مؤيد بسرعة البرق نحو صورة والده المعلقة على جدران بيت العزاء، وقف أمامها لحظة متمعناً، ثم طبع قُبلة على جبين والده، مستحضراً حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"، ورفع أكفه إلى السماء: "اللهم اجعلنا من الصابرين الشاكرين".  

وأهدى مؤيد نجاحه إلى روح والده، وإلى والده وعائلته كلها التي لم تبخل عليه، ووفرت له سُبل الدراسة بالرغم من الظروف العصيبة التي عصفت بها، مبيِّناً: "أسعدتُ روح والدي في قبره، عليه رحمة الله"، كما أهدى تفوقه إلى الوطن فلسطين وشهدائها.

وفيما يتعلق بالتخصص، أشار إلى أنه لم يُحدِّد تخصصاً محدداً، ولكنه سيبحث هذا الأمر بعد انتهاء عزاء والده، وسيختار التخصص الذي يناسبه، وفق قوله.