لا شك ان إدارة البيت الأبيض قلقة مما يحدث في دولة "إسرائيل" إن كان ذلك يتعلق بما يُعرف ب"الإصلاح القضائي" او بتَسعير الإستيطان في الضفة الغربية والتسارع الكبير نحو فرض أمر واقع في الأماكن المقدسة "المسجد الأقصى" لتجاوز الوضع الراهن القائم وبما يشمل "الوصاية الهاشمية"، والقلق الأمريكي يتم التعبير عنه بتصريحات إعلامية وأحاديث تلفونية ولكن في الوقت نفسه يتم التأكيد على الإلتزام الذي لا يتزحزح بأمن دولة "إسرائيل"، وما التصويت في الكونغرس الامريكي قبل ايام على ان دولة إسرائيل ليست ب "دولة عنصرية" وبأغلبية 412 مع و 9 ضد، إلا تأكيد للمؤكد، ويُدلّل على طبيعة العشق الأمريكي لِ "إسرائيل" وبغض النظر عن طبيعة الحكومة القائمة، حتى لو كانت الأشد تطرفا كما قال الرئيس الأمريكي "بايدن"، او تحوي وزراء هم المشكلة.
"إسرائيل" بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية بمثابة الروح، وهي حزينة لأن هذه الروح تلوثت بأفكار وأفعال مُحرجة يجب تنقيتها ثقافيا وسياسيا عبر الإقناع والمطالبة ودون القيام بخطوات قد تَخنق أمريكا قبل إسرائيل...العشق الأمريكي لِ "تل ابيب" المكتظة بعشرات الآلاف في الشوارع والمطالبة ببقاء ثقافة الليبرالية الأمريكية إستدعت من واشنطن أن تتحرك بطريقة إستجداء العاشق لمعشوقته وعبر مناشدات تُطالب بضرورة التوصل لتوافق بين أغلبية الأطراف على ما يُسمى "التعديلات القضائية"، ولكن في نفس الوقت ترفض القيام بأي خطوة عملية قد تُعري تلك المعشوقة وتُضعفها وبالذات أمنيا وحقوقيا وقانونيا وإنسانيا أمام المحافل والمؤسسات الدولية.
"نتنياهو" الماكر يعلم ذلك جيدا، فهو بالأصل صناعة تلك السياسة والأسلوب الدعائي الأمريكي، وهو يتعامل مع الإدارة الأمريكية برؤيا التعاطي والتوافق في الملفات الأمنية الإقليمية، أما فيما يتعلق بالوضع الداخلي هنا المسألة مختلفة (طبعا الضفة الغربية والقدس مسألة داخلية)، فهو يقدم وعود لهم، ويعمل على تنفيذ الحدود الدنيا من بنود الإصلاح القضائي من منطلق أن لا خيار ممكن أمامه في ظل التهديدات بحل الإئتلاف الحكومي وعدم وجود بديل يقبل ببقاءه رئيسا للوزراء، لذلك نرى ان بند "الحد من المعقولية" الذي تم التصويت عليه بالقراءة الأولى فقط يشمل المُنتخبين في الكنيست والسلطات المحلية.
"نتنياهو" لا يُعير إنتباه كثير للضغوطات الخارجية بقدر ما يهتم بالإستمرار في السلطة والحكم، فهو يَصُمّ أُذنيه ولا يَسمع الأصوات في شارع "كابلان" فكيف سَيَسْمع نداءات تأتيه من ما وراء المحيطات، وهنا اشير بأن الرجل لديه سياسات ثابتة تتمثل في التالي:
أولا- نتنياهو لن يُفكك إئتلافه إلا في إطار حكومة وحدة وطنية تأتي لأسباب أمنية وتعطيه ضمانات شخصية لما بعد إنتهاء فترته في رئاسة الوزراء.
ثانيا- نتنياهو يُحبذ البقاء في الإئتلاف اليميني المتطرف لتنفيذ كل سياساته الخاصة بالضفة والقدس (قمع طموح الفلسطيني في دولة مستقلة عبر خطوات على الأرض) وسياساته الداخلية بإحداث تغيير في صلاحية القضاء إن كان عبر التوافق او بدونه.
ثالثا- نتنياهو مُتطرف أكثر من "سموتريتش وبن غفير"، لكنه يختبئ خلفهم، فهو من قَضى على عملية السلام ومفهوم الدولتين أصلا.
رابعا- نتنياهو لن يتنازل مطلقا عن بقاءه رئيسا للوزراء وخارج اسوار السجن حتى لو ادى ذلك لتدمير دولة اليهود "إسرائيل"، ف "إسرائيل" لا معنى لها بدون الملك "عطاء الله".
خامسا- نتنياهو تحكمه "سارة" و "يائير" وهما مُتعطشين للسلطة والحكم والنفوذ ولصور الإعلام والتلفزيون أكثر منه.
سادسا- نتنياهو مستفيد شخصيا وسياسيا من الإنقسام الفلسطيني ويستغل ذلك في الهدوء والتصعيد، فهو يدعم إرهاب المستوطنين ويهمس في أذن "بن غفير" و "سموتريتش" للتصعيد في الضفة لوضع أجندة الأمن كأولوية، وهو مستعد لجر دولة إسرائيل لمعركة محدودة في الجنوب او في الشمال في سبيل إشغال البلد بمفهوم الوجود والبقاء بدل الإنشغال في مفهوم جودة الحياة الديمقراطية.
الواقع في دولة الإحتلال من المفروض أن يكون مُحفزا قويا للفلسطيني قبل غيره لكي يتحرك بقوة أكثر وبكافة أشكال المقاومة الناعمة والخشنة مما سيؤدي لضغط أكبر على الإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي وبالتالي ضغط فعلي وحقيقي على حكومة "نتنياهو"، لكن على الأرض ما يحدث حتى الآن من إستمرار للإنقسام وعدم الإتفاق على رؤيا موحدة يخدم سياسة "نتنياهو" ويعطيها مزيدا من القدرة على المناورة ومزيدا من تفتيت الساحات بدل توحيدها.
إكسير الحياة لحكومة نتنياهو يُغذيه الواقع الفلسطيني المُتردي والعربي المُنشغل في قضاياه الخاصة، وإنشغال العالم "المقصود أمريكا" في الصراع الأوروبي في "أوكرانيا" وفي التركيز على شرق آسيا وبالذات في مواجهة المارد "الصيني"، لذلك فإن الأزمة التي لا حَلّ لها في دولة "إسرائيل" سوف تستمر بين مدٍّ وجزر ووفقا للإحتياج "النتنياهوي" وبطريقة تؤدي لإستمرار حكومة اليمين الجديد في سدة الحكم، ف "إسرائيل - تل أبيب" القديمة على أبواب الإنتهاء، ونحن الآن نشاهد ولادة "إسرائيل" الجديدة ذات الطابع الهوياتي الأقرب لليهودية التوراتية ومركزها الإستيطان والمستوطنين في القدس والضفة الغربية.
أما العلاقة بين الإدارة الأمريكية ونتنياهو فجديدها يتمحور في الخفاء حول ما يجري على مستوى العالم من تغييرات قادمة لا محالة، خاصة أن "بايدن" النائم يعيش حالة من التراجع وهو ليس "كلينتون" القوي والقادر رغم قصة "مونيكا"، و "إسرائيل" الجديدة تُراقب التحولات التي تَحدث وحدثت منذ زمن "أوباما" وكيف تخلى عن حلفاءه وأدى إلى إنزياح الحلفاء بعض الشيء نحو "الصين" و "روسيا"، بل إلى تطبيع العلاقات مع "إيران" في محاولة لكسب وتطوير الذات كمصلحة وطنية قبل أي مصلحة أمريكية.
لن يتخلى "نتنياهو" عن علاقاته بالإدارة الأمريكية، ولكنه لن يسمح لها أن تفعل به كما حدث زمن الرئيس "كلينتون"، وسوف يماطل حتى تدخل أمريكا في الإنتخابات، وسيراهن على مجيء الجمهوريين الذين يدعمونه حتى النخاع.