مذ آمن بالفكرة جفى الرقاد، وانطلق ممتثلاً لقوله تعالى "وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ"، ولأمر الله "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ"، حمل هم الوطن وكرامته وعزته، غير آبه بـالأثمان التي سيدفعها في هذا الطريق، قدَّم وضحى وبذل واجتهد حتى لقي ربه شهيداً.

إنه الفدائي الثائر منذ طليعة الثورة الفلسطينية الشهيد القائد تيسير الجعبري "أبو محمود" عضو المجلس العسكري لسرايا القدس وقائد المنطقة الشمالية.

ميلاد قائد

ولد الشهيد القائد تيسير محمود الجعبري (أبو محمود) في 18 يناير/كانون الثاني للعام 1972م، ونشأ في أحضان أسرة إسلامية كريمة معروفة بالتزامها وكرمها وجهادها في سبيل الله.

عُرف بحنانه الكبير على والديه اللذين أحبهما وأحباه، فكان باراً بهما ومطيعاً لهما ويعمل على إرضائهما، عاش بين إخوته وأخواته محباً لهم حنوناً وعطوفاً عليهم.

شديد الحرص على صلة أرحامه الذين منعه الوقت من وصلهم فكان دائم السؤال عنهم وعن أحوالهم فيطمئن عليهم.

درس شهيدنا القائد تيسير المرحلة الابتدائية وكان مميزاً يحب المسيرة التعليمية، ومن ثم انتقل إلى المرحلة الإعدادية وكان مميزاً ومتفوقاً، ومن ثم أنهى المرحلة الثانوية، وكان يتميز بالجد في علمه، وأنهى دراسته الجامعية من الجامعة الإسلامية حيث تخصص في الشريعة الإسلامية.

تزوج شهيدنا من أم محمود التي كانت له عوناً في حياته اليومية والجهادية، وقد أقر الله عينه بخمسة من الأبناء واثنتان من البنات، إذا دخل بيته كان زوجًا محبًا، مقدراً لزوجته، محبًا لأطفاله، يسألهم عن يومهم، يستمع لمشكلاتهم، يلاعبهم، ينزههم، يلبي حاجاتهم.

عُرف شهيدنا القائد تيسير بدماثة خلقه منذ نعومة أظافره وبهدوئه الشديد وتوازنه العجيب، وصمته الطويل، فهو لا يتكلم إلا إذا دعت الحاجة لكلامه، هينًا لينًا قريبًا من الناس معروفًا بعلاقاته الاجتماعية، فتميز بالاستحواذ على حب كل من عرفه كونه لم يقصر في خدمة أحد طلب مساعدته ولم يتوانَ في مساعدة كل من احتاج مساعدته.

عمل القائد تيسير الجعبري معلماً لمادة التربية الإسلامية في عدد من مدارس حي الشجاعية، وكان مخلصاً في أداء عمله بحسب شهادة زملائه المدرسين.

في رحاب المساجد

منذ صغره خطى القائد أبو محمود أولى خطواته في مسجد ابن عثمان بحي الشجاعية شرق مدينة غزة ترعرع فيه، فلم يترك أي فعالية دينية من اعتكاف وجلسات دعوية وقراءة وحفظ القرآن.

كانت حياته حافلة بالعمل والطاعة لرب العالمين، حياة ملؤها الدعوة إلى الله، وانشغال دائم بتعظيم الله تبارك وتعالى في قلوب الناس.

صاحب صوت ندي

تميز القائد أبو محمود بصوته الندي في قراءة القرآن بإتقان، وهو ما جعله يتقدم للخطابة والإمامة في مسجد بن عثمان وفي العديد من مساجد قطاع غزة سيما في اعتكاف العشر الأواخر من شهر رمضان، كما كان أبو محمود أحد أعمدة فرقة عشاق الشهادة الفنية.

سجل جهادي مشرف

في شهر مارس من عام 1990م اعتقلت قوات الاحتلال الصهيوني القائد تيسير الجعبري في سجن أنصار 2، وخلال مكوثه في السجن التحق بصفوف حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين.

بعد الاعتقال وخلال انتفاضة الحجارة نشط في العمل الجهادي ضد الاحتلال الصهيوني من خلال رشق قوات الاحتلال بالحجارة، ووضع المتاريس وقطع الطرقات على الجيبات العسكرية للاحتلال.

لم يدخر أبو محمود  جهداً ولم يتوانَ عن أداء دوره الجهادي، فكانت بوابة مسجد بن عثمان أهم نقاط الاشتباك التي كان يتواجد بها ويلقي بحجارته وزجاجات المولوتوف على الاحتلال، وكان حريصاً على أن يكون حاضراً بشكل ملحوظ في المواجهات التي تدعو إليها حركة الجهاد الإسلامي.

مع قدوم السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة تعرض للاعتقال في زنازين جهاز المخابرات في سجن غزة المركزي، فلم يفت الاعتقال من عضد القائد أبو محمود ولم يثنيه عن مواصلة طريقه، فكان من القلة الذين أظهروا ولاءهم وانتماءهم لحركة الجهاد الإسلامي في ظل المحنة التي كانت تمر بها الحركة والملاحقة من الاحتلال والسلطة.

وفي العام 1998م كان الشهيد القائد تيسير الجعبري مسؤولاً عن الإطار الطلابي لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين.

في منتصف التسعينات كان القائد أبو محمود أحد مجاهدي وحدة الاستشهاديين في الجناح العسكري السابق لحركة الجهاد الإسلامي " قسم "، ثم عمل بعد ذلك في التنظير على الاستشهاديين وجلبهم للجهاز العسكري. 

كما عمل القائد أبو محمود في الجانب الأمني من خلال مراقبة العملاء وملاحقتهم، وأيضاً تأمين مجاهدي الحركة وأبنائها قبل خروجهم لأي عمل أو نشاط خشية من الاعتقال والملاحقة.

ومع بداية انتفاضة الأقصى برز في محطات مهمة في العمل العسكري والتنظيمي، حيث تولى قيادة كتيبة اجديدة في سرايا القدس لمدة عام ونصف، وبعدها تم تكليفه من قيادة سرايا القدس نائباً لقائد لواء غزة الشهيد القائد بهاء أبو العطا (أبو سليم).

وفي العام 2012م نال عضوية المجلس العسكري في سرايا القدس، ومسؤولاً لوحدة العمليات العسكرية المركزية في قطاع غزة.

وفي أعقاب اغتيال قائد أركان المقاومة الشهيد بهاء أبو العطا باستهدافه من قبل طائرات الاحتلال الصهيوني في تشرين الثاني/نوفمبر 2019م، تقلد الجعبري قيادة المنطقة الشمالية في سرايا القدس، وقاد الجعبري تطوير قدرات السرايا في المنطقة الشمالية، وأشرف على ذلك بنفسه.

وكسائر قادة المقاومة الفلسطينية، تعرض القائد الجعبري لمحاولتي اغتيال في عامي 2012م و2014م، ونجا في محاولة الاغتيال الأولى حيث كان برفقة الشهيد القائد بهاء أبو العطا.

وخلال مسيرته الجهادية أشرف على عدة عمليات عسكرية على تخوم قطاع غزة برفقة إخوانه الشهداء سيما القائد بهاء أبو العطا، وكان من أبرز هذه العمليات عملية كسر الحصار البطولية في موقع ناحل عوز العسكري، التي قتل فيها ثلاثة جنود صهاينة، كما أشرف على العديد من عمليات القنص التي نفذتها سرايا القدس على تخوم قطاع غزة، والإيعاز بإطلاق الصواريخ تجاه المغتصبات الصهيونية وأراضينا المحتلة.

وخلال عمله في صفوف سرايا القدس والمهام التي تقلدها حقق انجازات عديدة في العمل العسكري نذكر بعضاً مما سمح بنشره:

أشرف على إعداد وتجهيز الوحدات العسكرية في سرايا القدس ولم يدخر جهداً في تطوير وحدة العمليات المركزية من برامج التدريب المتنوعة لجميع مجاهدي سرايا القدس في القطاع سيما اختصاصات النُخب كما كان متابعاً مع إخوانه في الإشراف على عمل ورش المدفعية وتطوير القدرات الصاروخية في سرايا القدس.

قاد أبو محمود العديد من المعارك و جولات المواجهة التي خاضتها سرايا القدس ضد المحتل الصهيوني، أبرزها معركة صيحة الفجر البطولية وبأس الصادقين ومعركة سيف القدس.

وخلال معركة سيف القدس كان القائد تيسير الجعبري أبرز القادة الذين تقدموا المعركة، وكان صاحب دور بارز وهام فيها، إذ أشرف على ضربة "الكورنيت" التي افتتحت بها "سرايا القدس" المعركة واستهدفت من خلالها جيب قيادة للعدو شرق بيت حانون شمال قطاع غزة.

موعد مع الرحيل

كان شهيدنا القائد تيسير الجعبري "أبو محمود " دائم التمني بأن يلقى ربه شهيداً في ساحات المواجهة مقبلاً غير مدبر، صدق الله فصدقه الله فكان له ما تمنى.

في الخامس من أغسطس/آب 2022م ارتقى القائد أبو محمود إثر قصف عملية اغتيال جبانة حيث استهدفت طائرات الاحتلال الحربية برج فلسطين في حيّ الرمال وسط مدينة غزة، وارتقى برفقته رفيق دربه القائد سلامة عابد، فسلامٌ لروحهما الطاهرة، وتقبلهما الله في الفردوس الأعلى.