عندما تسمع "أصوات المطرقة، وأدوات القص، وتكسير البلاط" تعتقد للوهلة الأولى أنك داخل معمل للبناء؛ لكن المفاجأة أن تلك الأدوات تستخدم لإنتاج أجمل اللوحات الفنية والثقافية في فلسطين، والمثير للدهشة أن اللوحات الفنية يصنعها فتية صغار تتراوح أعمارهم ما بين (12 عامًا حتى 17عامًا).
على يمين اللوحة تقف الفتاة لما العقاد (17 عامًا)، تملك الفتاة الصغيرة إرادةً وإصرارًا وتحدي منقطع النظير، فيما ترتدي ملابس بيضاء مخصصة للعمل، وبيدها الصغيرة الناعمة تُمسك المطرقة لتضرب بها قطعة بلاط (40سم*30سم)، لتتحول إلى قطع صغيرة تُسهل عملية تقطيعها فيما بعد من خلال أداة "القطاعة" إلى (1سم) فقط.
تحتاج أداة تقطيع البلاط إلى قوة بدنية وتركيز عالٍ خشية من الإصابة بجروح مختلفة؛ لكن رقة الفتيات لم تقف عائقًا أمام تحقيق أحلامهن وطموحهن من إتمام اللوحة الفنية بأجمل صورة، فقد رافقت لمى من الفتيات "أمل، سميحة، شيرين"، ومن الفتية "محمد وعبدالله ومحمود وياسر" ضمن فريق عمل لإنتاج لوحات فنية تحاكي –الفسيفسائية القديمة-.
ينقسم فريق العمل التابع لمشروع "بُناة الغد" في جمعية الثقافة والفكر الحر بمدينة خانيونس جنوب قطاع غزة لثلاثة أقسام، يلتف كل قسم حول طاولة مستطيلة يصل طولها نحو (3 أمتار) وعرضها (مترين)، وينهمك الفريق منذ الساعة الثامنة صباحًا إلى الثالثة مساءً بتنسيق القطع الصغيرة من البلاط الملون في مكانها المحدد وفقًا لصورة اللوحة الفنية المعدة مسبقًا.
قبل أن يبدأ الفريق بتنسيق وترتيب وتثبيت القطع الصغيرة من البلاط، يضع محمد أبو لحية مسؤول الفريق في جمعية الثقافة والفكر الحر، مخططًا لتنفيذ اللوحات الفنية، إذ يعقد أبو لحية ورشة عمل مع أعضاء الفريق ليتفقوا على الصور التي يرغبون بتنفيذها لتصبح فيما بعد لوحة فنية، قادرة على الصمود ومواجهة عوامل التعرية لمئات السنين –في محاكاة لعمل الفسيفساء البيزنطية والرومانية واليونانية القديمة-.
بعد المشورة والاتفاق يضرب أعضاء الفريق من الفتية أكفهم ببعضها البعض، في إشارة منهم على موافقتهم لبدء العمل، وبذلك تعلوا وجوههم الفرحة؛ فاللوحة التي يصل طولها إلى (مترين) وعرضها (متر ونصف) قد يستمر العمل فيها على مدار الوقت لمدة تزيد من 6 شهور تكون مليئة بالتعب والمشقة والجهد واللقاءات الجميلة بين الأصدقاء.
في تلك اللحظة تتوزع المهام لإنتاج اللوحة الفنية المتفق عليها، فالبعض يجمع البلاط وآخرون يُجهزون المعمل، وآخرون يلتقطون صور فوتوغرافية وتحويلها إلى رسمة بالإسكتش، وطباعتها على –لوحة من جلد- وهذا العمل يحتاج إلى خبرة في علوم الهندسة والرياضيات.
"طائر الشمس – ثوب المرأة – العجوز باللباس التقليدي– ساحل البحر–– أواني الماء الفخارية وشجرة الزيتون" كلها صور تاريخية من التراث والثقافة الفلسطينية اتفق فريق العمل على انتاجها، يقول أبو لحية وهو يُشير بإصبعه إلى اللوحات التراثية: "نحاول قدر المستطاع الحفاظ على التراث والثقافة الفلسطينية الأصيلة من خلال محاكاة اللوحات الفنية الفسيفسائية القديمة".
يمتلك الفريق قدرات ومهارات عالية الدقة لإتقان اللوحات الفنية باحترافية، إذ بدأ أبو لحية في تشكيل الفريق عام (2022م) بزيارة الأماكن الأثرية والتاريخية القديمة في القطاع، منها دير هيلاريوس، ومواقع تاريخية أثرية مختلفة.
زيارة أعضاء الفريق للأماكن الأثرية، أدى إلى توسيع مخيلتهم ومنحهم أفكارًا جديدة ومتعددة فيما منحتهم الإرادة والعزيمة لخوض غمار التحدي ومحاكاة اللوحات الفسيفسائية القديمة جدًا، وقبل عام بدأ الفريق بعمل لوحات مبتدئة تتراوح ما بين (20 سم إلى 30 سم) وأول اللوحات الجميلة كانت عبارة عن شكل سبلة ثم حمامة لتتطور إلى أشكال هندسية متقنة.
تعددت الأفكار وتطور الأداء إلى أن وصل الفريق إلى الاحترافية، يقول أبو لحية لمراسل "شمس نيوز": نحاول قدر المستطاع أن نصنع لوحات فسيفسائية عن التراث الثقافي ومكوناته الفلسطينية الغنية، حفاظًا على التاريخ والآثار والعادات والتقاليد لأطول مدة زمنية في التاريخ".
يستمر عمل فريق اللوحات الفسيفسائية، لإنتاج لوحة فنية يتراوح طولها نحو (مترين) مدة زمنية تستغرق نحو 6 أشهر يتذوق الفريق خلال تلك الفترة ألوان وأصناف من التعب والمشقة والعذاب، تزول كلها عند اكتمال اللوحة المميزة.
ويواجه الفريق صعوبات عدة في توفير المواد الخام، يقول أبو لحية: "لا نستطيع العمل بالخامة الأصلية لعمل الفسيفساء، لعدم قدرتنا على إدخالها من المعابر نظرًا للحصار وتكلفتها العالية جدًا، فنضطر لاستبدالها بأنواع مختلفة من البلاط "السيراميك والخزف" سواء بشرائها من محلات البيع أو من الشوارع والطرقات".
وغالبًا ما يتجول أبو لحية وأعضاء الفريق في الأماكن المتروكة لاستكشاف بعض قطع البلاط التالفة لإعادة تدويرها واستخدامها في اللوحات الفسيفسائية، فكل لوحة فنية يكون طولها نحو (مترين) تحتاج إلى نحو 19 ألفًا و900 قطعة صغيرة من البلاط يصل طولها (1 سم).
بعد نحو 6 أشهر من العمل والتعب والمشقة يشعر الشاب عبد الله العكاوي والفتاة لما وجميع أعضاء الفريق بالفرحة الشديدة لإنتاج أجمل اللوحات الفسيفسائية التي تحافظ على التراث والآثار الفلسطينية من عوامل التعرية، إذ يؤكد أعضاء الفريق بأنهم لا يشعرون بالملل أو الكسل مطلقًا فهم يستمتعون على مدار الوقت لإعداد اللوحة الفنية.
ويسعى أبو لحية والفريق لإنتاج لوحة فنية طويلة جدًا تحتوي على أنواع مختلفة من الآثار والتراث الفلسطيني لوضعها أمام معبر رفح أو على مدخل رفح، مستذكرًا مشهد اللوحات الفنية التي تُعرض على جدار المطارات العربية والأجنبية للتعريف بتراث والآثار القديمة للدول.
ويعد فن الفسيفساء، الذي يعتمد على صناعة صورة من تجميع قطع صغيرة من الزجاج أو الحصى أو المواد الأخرى الملونة، أقدم فنون التصوير، ويعود إلى العصر البيزنطي، وفي غزة لم يشهد أي حراك أو اهتمام به حتى اختفى تماماً، لكنه عاد من جديد بعد أن بدأ فنانون في صناعة لوحات جمالية بألوان زاهية وفق قواعد هذا الفن، تعلق في أماكن عامة أو في بيوت السكان.