رغم أن معظم التقارير الواردة في وسائل الإعلام الصهيونية، خلال الشهرين الأخيرين تحديداً، ترجّح اندلاع مواجهة عسكرية على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة بين "الجيش" الإسرائيلي من جهة، وبين حزب الله اللبناني من جهة أخرى.
ورغم أنّ المحللين العسكريين الإسرائيليين بمعظمهم يميلون إلى الاعتقاد بأن تلك المواجهة باتت أقرب إلى الحدوث من أي وقت آخر، فإن تحليل الظروف الموضوعية المحيطة بما يجري من توتّر على الحدود اللبنانية - الفلسطينية بسبب فرض "جيش" الاحتلال سيطرته على القسم الشمالي من قرية الغجر المحتلة، أو بسبب نصب حزب الله خيمتين في المنطقة المحتلة من مزارع شبعا، بالإضافة إلى بعض التحركات العلنية التي يقوم بها ناشطو الحزب بمحاذاة السياج الفاصل بين البلدين، لا تشي بأننا قريبون من تلك المواجهة، وأن أكثر السيناريوهات ترشيحاً للحدوث خلال المرحلة القريبة القادمة هو بقاء الحال على ما كانت عليه خلال السنوات السبع عشرة التي تلت حرب تموز 2006، مع إمكانية ارتفاع منسوب التوتّر حيناً، وانخفاضه حيناً آخر، ولكن ليس إلى الدرجة التي يمكن أن تفجّر صراعاً عسكرياً كالذي تبشّر به وسائل الإعلام الإسرائيلية.
ولكن، لأن التجربة علّمتنا ألا نستعجل في الحكم على الأحداث، وعلّمتنا كذلك أن مجرد ارتكاب خطأ صغير في الميدان، أو خلل في تقدير الموقف من هذه الجهة أو تلك، يمكن أن يؤدي إلى اندلاع حرب قاسية تذهب بالمنطقة إلى المجهول، بالإضافة إلى إمكانية تحوّلها إلى حرب إقليمية واسعة، تتعدّد فيها الجبهات، ويكثر فيها المتقاتلون، فإننا سنناقش سيناريوهات تلك الحرب من الاتجاهات كافة، وسنحاول رسم صورة تقريبية للتداعيات التي يمكن أن تنتج منها، إلى جانب إضاءتنا على الخطط التكتيكية التي يمكن أن تلجأ إليها أطراف المواجهة.
في الجزء الأول من هذا المقال، أشرنا إلى الخيارات التكتيكية التي يمكن أن يستخدمها "جيش" الاحتلال الإسرائيلي في حال قرر القيام بعملية عسكرية ضد حزب الله، ونوّهنا كذلك إلى أن كل تلك الخيارات تبدو صعبة، خصوصاً في ظل المشكلات العديدة التي يعاني منها "الجيش" الصهيوني، والتي تقف على رأسها الصعوبات التي تعاني منها ذراع البر، والتي تُجمع كل التقارير الصحفية الإسرائيلية على أنها تعاني من "انحطاط تكتيكي" تمنعها من القيام بمناورة عسكرية واسعة في ميدان القتال، لا سيما في بيئة معقّدة وخطرة كالتي توجد في جنوب لبنان، وهو الأمر الذي عانت منه سابقاً في عدوان تموز 2006، وحربي غزة في العامين 2012 و 2014.
وفي العدوان على جنين في تموز/ يوليو الماضي، إضافة إلى الانقسام الحاد الذي تعاني منه المؤسسات الإسرائيلية، وفي المقدمة منها مؤسسة "الجيش" بسبب التعديلات القضائية التي يسعى نتنياهو وشركاؤه لتمريرها في البرلمان. وقد نوّهنا كذلك إلى أن اتخاذ قرار الحرب من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه غالانت، الذي أظهر خلال الفترة السابقة حماسة للذهاب إلى الحرب، مكرراً عبارة إعادة لبنان إلى العهد الحجري، سيكون بمنزلة قرار انتحار جماعي للمؤسستين العسكرية والسياسية في "إسرائيل"، وأن مصير القادة الذين سيدعمون هذا الخيار لن يختلف عن مصير إيهود أولمرت الذي أخطأ التقدير في العام 2006، وذهب إلى المعركة من دون خطة واضحة، ومن دون امتلاكه أي خبرة سابقة تساعده في اتخاذ قرار من هذا الحجم.
في هذا الجزء، سنناقش خيارات الطرف الآخر في هذه المواجهة المُتوقعة، وهو حزب الله اللبناني، لا سيما خياراته الهجومية، إذ تشير التقارير بمعظمها إلى أنه اتخذ كل ما يلزم من إجراءات لمواجهة حرب من هذا القبيل، مع أن تقدير الموقف لديه يشير إلى أن نسبة اندلاع تلك المعركة ليست مرتفعة، وهي لا تتجاوز الـ 10 %، بيد أن هذه النسبة، وإن بدت منخفضة، فإنها كافية لرفع مستوى الجهوزية إلى درجتين أو ثلاث في صفوف الحزب، مع إمكانية رفعها إلى الدرجة القصوى في حال تطور الأمر، وازدادت نسبة المخاطر.
ولكن، قبل الذهاب لاستعراض تلك الخيارات الهجومية، فإننا سنذكّر ولو بشكلٍ سريع بإمكانيات الحزب اللبناني، والذي تصنّفه أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بأنه أخطر الأعداء القريبين، وهو يمثّل التهديد الأبرز " للدولة " على الصّعد والمستويات كافة، وأن إمكانياته العسكرية، وقدراته الخططية والعملياتية تضعه في مصاف القوى الأكثر فتكاً على مستوى العالم، لا سيما في مجال حرب العصابات، أو "الحرب اللامتناظرة "، والتي تخشى "إسرائيل " من خوضها بسبب تعقيداتها الكثيرة.
قدرات حزب الله العسكرية
في كثير من الأبحاث الصادرة عن مراكز دراسات متخصصة يُنظر إلى حزب الله بأنه قوة عسكرية حديثة ومتعاظمة، وأن تشكيله العسكري والخطط القتالية التي يعتمد عليها أقرب إلى عمل الوحدات الخاصة والنخبوية منه إلى الجيوش النظامية، وأنه يستند إلى ترسانة كبيرة من الأسلحة المتطوّرة، وخصوصاً على مستوى سلاح الصواريخ، والتي يملك منها حسب وسائل إعلام إسرائيلية أكثر من 200 ألف صاروخ، يُعدّ أكثر من نصفها من الصواريخ الدقيقة، التي لا يتجاوز هامش الخطأ فيها عدة أمتار.
إذ يملك الحزب صواريخ "كاتيوشا" و"غراد" من عياري 107 و122 ملم، بمدى يبلغ 40 كلم، وصواريخ " فجر 3" بمدى يتجاوز 45كلم، و" فجر 5" بمدى يتجاوز 75 كلم، إضافة إلى صواريخ "رعد 2 " و" رعد 3"، التي يبلغ مداها نحو 70كلم، وصواريخ "خيبر 1 " التي يتجاوز مداها 100كلم. إضافة إلى صواريخ من طراز "زلزال 1 " و" زلزال 2"، إذ يبلغ مدى الأول نحو 160 كلم، فيما يبلغ مدى الثاني نحو 210 كلم. إلى جانب كل ما سبق، فإن لدى حزب الله صواريخ من طراز " فاتح 110 "، وهو صاروخ باليستي يبلغ مداه 300 كلم، ويحمل رأساً حربياً يزن 500 كغم. أما الصواريخ الأكثر إثارة للقلق في الأوساط الصهيونية، فهي صواريخ "سكود" التي يتجاوز مدى نسختها الأحدث 700 كلم، والتي يمكنها إصابة جميع الأهداف الحيوية والحسّاسة داخل الكيان الصهيوني.
هذا بالإضافة إلى امتلاك الحزب أنظمة صواريخ مضادة للدروع يمكنها شل قدرة سلاح المدرعات الإسرائيلي كما حدث في وادي الحجير في حرب تموز، وقد نشر الإعلام الحربي للحزب قبل أيام مشاهد لمنظومة "ثأر الله " المضادة للدروع، والتي تتمتع بقدرات فائقة على مستوى السرعة والمدى ودقة الإصابة، وهي كما ظهر في المشاهد منصّة مزدوجة لما يبدو أنه صاروخ "كورنيت" روسي الصنع، تقوم بإطلاق صاروخين بشكل متتالٍ، بحيث يصيبان الهدف بفارق جزء من الثانية، وهو ما يؤدي إلى تدميره تماماً مهما بلغت شدة تحصينه، مع ملاحظة أن مدى هذه المنظومة، حسب بعض المصادر، يبلغ ضعفي مدى منظومة "الكورنيت" المعروفة، إذ يبلغ نحو 10 كلم.
إلى جانب ذلك، فإن حزب الله يملك صواريخ بر-بحر، من أنواع ومديات مختلفة، باستطاعتها إصابة السفن والزوارق العسكرية الإسرائيلية وتدميرها، كما حدث في حرب تموز 2006، عندما تم استهداف البارجة الإسرائيلية "ساعر 5 " قبالة سواحل مدينة صور بصاروخ صيني الصنع من طراز " C-802 "، كما أشار بعض المصادر الإعلامية في ذلك الوقت.
وحسب مصادر إسرائيلية وأخرى أميركية، فإن الحزب بات يمتلك حالياً أنظمة صواريخ مضادة للسفن من أنواع متعددة مثل صاروخ " نور " إيراني الصنع، والذي يصل مداه إلى 200 كلم، وصاروخ "القادر" بمدى يتجاوز الـ300 كلم، إضافة إلى صاروخ " ياخونت " الروسي، الذي يبلغ مداه في نسخته الأولى 300 كلم، وهو من أكفأ وأفضل الصواريخ البحرية على مستوى العالم، بالإضافة إلى صاروخ " أبو مهدي " الإيراني، والذي يبلغ مداه 1000كلم، والذي يمكن إطلاقه من منصات ثابتة ومتحركة، وهو ما سيشكّل خطراً داهماً على البوارج العسكرية الإسرائيلية في أي مواجهة قادمة.
هذا بالإضافة إلى امتلاك الحزب أنظمة دفاع جوي لا يُعرف نوعها أو عددها حتى الآن بشكل دقيق، وهي كما يبدو ستكون مفاجأة الجولة القادمة من القتال في حال اندلاعها، رغم أن بعض المصادر الإسرائيلية أشار إلى امتلاك الحزب صواريخ أرض/جو محمولة على الكتف، من بينها صواريخ "ستينغر" الأميركية الشهيرة، التي وحسب المصادر الإسرائيلية وصلت إلى الحزب عن طريق أفغانستان، إضافة إلى صواريخ روسية من نوع SA-16، SA-18 التي باستطاعتها إسقاط الطائرات على مسافة 5 كلم، وعلى ارتفاع 3.5 كلم. هذا بالإضافة إلى بطاريات ثقيلة من نوع SA-8، وSA-17، وSA-22.
إلى جانب الصواريخ الهجومية والبحرية والدفاعية والتي تحدثنا عن بعضها باستفاضة في مقالات سابقة، يملك حزب الله أكثر من 2000 طائرة مسيّرة من أنواع مختلفة، جزء كبير منها يملك إمكانيات هجومية نوعية مثل الطائرة الإيرانية الصنع "شاهد "136، والتي أثبتت كفاءة هائلة في الحرب الروسية-الأوكرانية، كما يقول كثير من دوائر المخابرات في العالم، إلى جانب طائرات أخرى من نوع "مهاجر، وكيان ".
إضافة إلى كل ذلك، فإن حزب الله يملك قوة برية نخبوية حديثة ومتمرّسة، تقف على رأسها " فرقة الرضوان "، التي يصفها الخبراء العسكريون الصهاينة بأنها من أكفأ الوحدات القتالية على مستوى العالم، وأن مقاتليها يتمتعون بمهارات قتالية قلّ نظيرها، صُقلت في الكثير من ميادين القتال، لا سيما أثناء مشاركتها في الدفاع عن سوريا في وجه الحرب الكونية التي شُنت عليها.
وقد بدا واضحاً وجليّاً أثر تلك القوة التي يملكها الحزب على تصريحات أمينه العام السيد حسن نصر الله، لا سيما في خطابه الأخير في ذكرى انتصار تموز، والذي وصفته الصحافة الإسرائيلية بأنه من أهم الخطابات التي ألقاها خلال السنوات الاخيرة، وأن هذا الخطاب ذكّر الإسرائيليين من جديد بما عليهم الاستعداد له والخشية منه، إذ هدد الأمين العام لحزب الله بإعادة الكيان الصهيوني إلى العصر الحجري في معرض ردّه على تهديدات وزير الحرب الصهيوني يؤاف غالانت، كما أشار إلى أن بإمكان حزبه إصابة كل المنشآت الاستراتيجية والحسّاسة داخل "إسرائيل"، وتأتي في مقدمتها محطات توليد الطاقة، ومحطّات المياه، وشبكات الاتصالات، وحقول النفط والغاز، والمؤسسات المعنية بتقديم الخدمات للمستوطنين، إضافة إلى الأهداف العسكرية الحيوية مثل المطارات والقواعد الجوية، والمنشآت النووية، والموانئ البحرية، ومراكز اتخاذ القرار في "إسرائيل " كوزارة الحرب، والبرلمان، ومقر الحكومة إلخ.
وفي ضوء معرفة قادة العدو الصهيوني بمقدّرات حزب الله وإمكانياته، فإنهم يدركون تماماً أن المواجهة معه في أي حرب قادمة ستكون صعبة وقاسية، وستختلف شكلاً وموضوعاً عن الحرب السابقة في العام 2006، لا سيما أن الحزب بات يمتلك معادلات استراتيجية للردع مع "دولة" الاحتلال، إضافة إلى إمكانياته في خوض الحرب الهجينة، التي تجمع بين حرب العصابات والحرب التقليدية.
بيد أنّ هذه المعرفة قد لا تكون كافية لمنع ذهاب "دولة" الاحتلال إلى مواجهة بصرف النظر عن حجمها ومداها مع حزب الله، وذلك بسبب الرغبة في الخروج من دوّامة المشكلات الداخلية التي تعانيها "الدولة" منذ نحو تسعة أشهر، والانقسامات الحادة التي وصلت إلى معظم المؤسسات الإسرائيلية وفي مقدمتها مؤسسة "الجيش"، إضافة إلى المشكلات على مستوى الاقتصاد والبنية التحتية وغير ذلك الكثير.
وبالتالي، فإن الذهاب إلى حرب من هذا النوع، يعني من دون أدنى شك، تعرّض الجبهة الداخلية الصهيونية لضربات هائلة وساحقة قد تؤثر في استقرارها وتماسكها، وربما تؤدي في مرحلة لاحقة، لا سيما في حال طالت الحرب واتسع مداها، إلى انهيار تلك الجبهة، التي تُعد الخاصرة الرخوة لـ"إسرائيل"، والتي لا تملك مقوّمات الصمود كما بدا واضحاً خلال المعارك السابقة، وتحديداً مع المقاومة في قطاع غزة.
حزب الله.. والخيارات الهجومية
يملك حزب الله مروحة واسعة من الخيارات القتالية الهجومية، التي يمكنه من خلالها الرد على أي عدوان إسرائيلي محتمل، ويعتمد استخدام تلك الخيارات على حجم المعركة التي ستُخاض ونوعها، وإلى أي المستويات يمكن أن تصل.
وقياساً على حجم الإمكانيات الكبيرة التي يملكها حزب الله على المستوى العسكري، والتي أشرنا إلى بعضها آنفاً، وبناء على ما نسمعه من تصريحات وتهديدات من جانب الأمين العام للحزب سماحة السيد حسن نصر الله، فإننا يمكن أن نتوقع لجوء الحزب إلى مجموعة من الخيارات العسكرية الهجومية الواسعة التي ستستهدف عصب "دولة" الاحتلال، وذلك حسب خطة بدا جزء من ملامحها واضحاً بدرجة أو بأخرى، مع إمكانية حدوث العديد من المفاجآت التي لا يمكن لأحد أن يتوقّعها، لا سيما على مستوى التوغل البري لقوات النخبة التابعة للحزب في المناطق الشمالية لفلسطين المحتلة.
ولكن، من المهم التنويه هنا إلى أن أي حرب محتملة ليس بالضرورة أن تصل إلى درجة الحرب الشاملة والمفتوحة كما يتوقع البعض، بل ربما تقتصر على مواجهة ضيقة جغرافياً، وقصيرة زمنياً تبعاً للظروف الإقليمية المحيطة، والتي تترك في كثير من الأحيان تأثيرات مباشرة ومؤثرة في حجم المعركة ومداها.
الخاتمة
في الجزء الثالث والأخير، سنعرّج على الخيارات الهجومية التي يمكن أن يستخدمها حزب الله في إطار رده على أي عدوان إسرائيلي محتمل، مع الإشارة إلى أن الخيارات التي سنشير إليها هي نتاج تحليل وليس نتيجة معلومات مسبّقة، وهي بالتالي تحتمل الصواب أو الخطأ.