سبق لتركيا، وعبر حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، والمنحدر من أصول إسلامية عامة، أن رفعت شعار المهاجرين والأنصار، في ذروة الأزمة عند الجارة الجنوبية؛ سوريا.
كشفت سياسة الحكومة التركية نحو العودة الطوعية لآلاف العرب، وقد تحولت إلى ترحيل قسريّ، وخاصة بحق السوريين، عن حقيقة ما يتم تداوله من تنامي ثقافة العنصرية التركية ضد العرب، بما غصت به وسائل التواصل عن شجارات وهرج ومرج في الشوارع والمطاعم وسيارات الأجرة، وهي حقيقة تجاوزت حِجاج السلطة والمعارضة، إلى الاعتراف العربي والتركي الصريح من جانب أغلبية مؤيدي الزعيم التركي إردوغان، وهو اعتراف ظهر معززاً بالأدلة حول دور سياسات الدولة التركية في السماح بتنامي هذه الثقافة، إن لم يكن رعايتها بشكل غير مباشر.
سبق لتركيا، وعبر حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، والمنحدر من أصول إسلامية عامة، أن رفعت شعار المهاجرين والأنصار، في ذروة الأزمة عند الجارة الجنوبية؛ سوريا، باعتبار "تركيا الحضن الدافئ لملايين السوريين الذين هاجروا من ديارهم هرباً من آتون الحرب"، حتى وصلت السياسة التركية مع هذا الشعار، إلى درجة تحريض السوريين على هجر بلدهم، عبر توفير بنية تحتية خدمية في إيوائهم ورعاية مصالحهم، وإن بشكل نسبيّ بطبيعة الحال.
تجاوز عدد السوريين في تركيا الثلاثة ملايين لاجئ، ومعهم ثلاثة ملايين عربي من مصر واليمن والعراق وليبيا، وشتى بلدان البؤس العربي، باعتبار تركيا فتحت أبوابها لتكون الجامع الإسلامي، خاصة أن زعيمها الاستثنائي؛ إردوغان، وضع يده على جرح المظلومية الإسلامية في كل بلد طاله الاحتراب الداخلي.
لكن تركيا وبعد سنوات قليلة وجدت نفسها أمام فشل سياساتها في المحيطين العربي والإسلامي، وخاصة في سوريا والعراق، وهو ما دفعها، في ظل معطيات دولية إضافية، إلى استدارة نسبية، أو محاولة إمساك العصا من المنتصف، يد مع الإقليم بتركيبته الرسمية، وأخرى مع قوى المعارضة التي احتضنتها وغذتها لسنوات، مع تغليب الواقع الرسمي، نظراً إلى رجحان كفة الدولة، خاصة مع بدء تعافي سوريا من الحرب عليها، وهو ما دفع إردوغان إلى محاولة الاجتماع بالرئيس السوري بشار الأسد.
وهكذا، وجدت تركيا نفسها على المستوى السياسي الرسمي، في ظل شعارات يصعب الاستمرار في التماهي معها، وهي ربما رفعتها بالأساس لأهداف سياسية بحتة، وليس بالفعل نصرة للمهاجرين، فلا تركيا كانت يثرب المتحفزة للدين الجديد، ولا سوريا تشبه كفار مكة بحال، بالعكس فتركيا يسمح قانونها بكثير مما يخالف بديهيات الإسلام؛ وأولها علم "إسرائيل" الذي يرفرف في سمائها على حساب مسرى رسول الله، وليس آخرها كل مظاهر العري والربا والتزلف للغرب.
سقط شعار المهاجرين والأنصار في تركيا، لانعدام حقيقته الدينية والواقعية بالأساس، ثم لتغيّرات نشأت بعد عقد من المراهنات غير المحسوبة استراتيجياً، ليجد الحزب الحاكم في تركيا نفسه وسط ضجيج الانتخابات واستحقاقاتها وتحالفاتها، وهو ما جعله يغلّب بقاءه في الحكم، عبر تحالفات داخلية قومية متعصبة، على حساب علاقاته الخارجية مع معارضات عربية، وخاصة الإخوانية منها، وقد فشلت في تحقيق الحد الأدنى من تثبيت وجودها داخل بلدانها.
بعيداً عن السياسات التركية الرسمية، أو المعارضة، ظهر في تركيا منذ زمن بعيد شعور بالتعالي التركي على الجار العربي، وهو في جانب منه من مخلفات الدولة العثمانية، رغم ما كان للدولة العثمانية من جوانب جامعة للأمة في مواجهة غطرسة الغرب لقرون خلت، فإنه نشأ من مضاعفات الحكم التركي للعرب، ظهور مشاعر فوقية عند الأتراك، أو لنقل عند بعضهم، وقد ترسخ بعضها مع تطور الدولة التركية باعتبارها جزءاً من حلف "الناتو"، وعلى تماس مع الاقتصاد الأوروبي، خاصة في ظل التشظي العربي.
أراد الحزب الحاكم في تركيا تجاوز مخلفات تجربته الفاشلة مع المحيط، فلجأ إلى تضخيم تبعات اللجوء العربي، وهو لجوء ليس بوسعه أن يؤثر في اقتصاد دولة مثل تركيا تجاوز تعداد سكانها المائة مليون، وهي تنعم بموارد اقتصادية هائلة كونها منفتحة على التجارة العالمية من دون قيود، مع سياحة عالمية واسعة خاصة في الوسطين العربي والخليجي، بما يحول دون تأثير سبعة ملايين عربي وأفغاني في بنيتها الاقتصادية المتينة، رغم تنامي التضخم والبطالة ونقصان سعر الليرة، وكل ذلك وليد سياسات رسمية ونزاعات دولية، وليس بسبب اللاجئ العربي بحال.
إن أدنى مقارنة لتبعات اللجوء السوري مع لبنان أو الأردن، بالحال مع تركيا يظهر مدى فحش المقارنة، فلبنان البلد الصغير يحتضن مليونيّ لاجئ سوري، وهناك جهات نافذة محلية وإقليمية ودولية تحرضهم للتوطين في لبنان، رغم السعي السوري لاستعادتهم، وهي الجهات نفسها التي تبرر لتركيا الترحيل القسري للعرب، حتى ترحيل عرب غير سوريين لشمال سوريا، ومنهم مغاربة وعراقيون.
طبيعي أن تسعى تركيا ولبنان والأردن، وكل دول الجوار لإعادة السوريين والعراقيين واليمنيين والليبيين والمصريين والأفغان إلى أوطانهم، باعتبار اللجوء فترة اضطرارية مؤقتة، ولكن غير الطبيعي أن يتم ذلك بدوافع عنصرية، فلا اللبناني ولا التركي ولا غيرهما يحمل جينات ذهبية ولا فصيلة دم مقدسة، والأصل هو الأخوّة الإنسانية ابتداء، ثم الجامع الإسلامي الذي لا يتناقض مع الانتماء الوطني بحال.
مخجل أن يرتل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، سورة التوبة باعتبارها أعظم وأقدم قانون للجوء الإنساني العادل، وهو رجل غير مسلم، وخاصة قوله تعالى (وإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُۥ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ) ثم تخرج نعرات عنصرية في أيّ بلد إسلامي، وضد من؟ ضد مسلمين آخرين، فضلاً أن يقع ضد مشركين.
سواء خرجت منابع هذه العنصرية المتنامية في تركيا من سياسات الدولة أو بعضها، أو بتحريض من المعارضة المتغرّبة أو المتعلمنة، أو نتاج ثقافة فوقية لطبقات مجتمعية تركية تجد نفسها أرقى من هذا العربي البائس أو حتى العربي الخليجي الذي يضع الآلاف من أمواله في خزينة الاقتصاد التركي، فإن الواقع التركي برمته يتحمل المسؤولية.
والواجب يقع على عاتق الدولة برئيسها وحكومتها ومؤسساتها الثقافية والدينية، أن تنهض لاستعادة الروح الإسلامية الجامعة في النظر إلى الآخر سواء كان ضيفاً أو زائراً أو لاجئاً أو جاراً، وتجاوز سياسة المصلحة الحزبية أو العرقية والتلاعب بمصائر الشعوب، ليصل حال العربي منبوذاً في تركيا، فيما الإسرائيلي سائحاً مصاناً في أمنه حتى لو باع المخدرات وتجسس على الحرمات.