لم يسعف «إسرائيل» اعتقال واحتجاز الأسرى الفلسطينيين في سجونها وفرض قوانينها العنصرية وإجراءاتها العقابية عليهم وهم أحياء، بل امتدت جرائمها لتعتقل وتحتجز الأموات. حيث أفادت تقارير رسمية أن «إسرائيل» الدولة القائمة بالاحتلال تواصل احتجاز أحد عشر أسيراً من شهداء الحركة الأسيرة، أقدمهم أنيس دولة المحتجز منذ العام 1980 إلى جانب عشرة أسرى وهم عزيز عويسات، فارس بارود، نصار طقاطقة، بسام السايح، سعدي الغرابلي، كمال أبو وعر، سامي العمور، داود الزبيدي، ناصر أبو حميد، وخضر عدنان.
حيث تواصل سلطات الاحتلال احتجاز جثامين 398 شهيداً فلسطينياً منهم 256 شهيداً في مقابر الأرقام، و142 شهيدًا في ثلاجات الموتى منذ العام 2015، ونحو 75 مفقوداً منذ عشرات السنوات من عمر الاحتلال، حيث لم يسلم الأطفال والنساء من الاعتقال بعد الموت، باحتجازها 14 طفلاً، و5 نساء.
إن قرار «إسرائيل» لم يكن محضاً للصدفة بل هو قرار عنصري بامتياز أكدته حكومات الاحتلال المتعاقبة ومجالسها الأمنية «الكبينيت» توارثته عن الانتداب البريطاني، تحت مزاعم أنها تشكل رأس مال تستفيد منه في صفقات تبادل مستقبلية أي كـ«ورقة مساومة»، لكن الحقيقة تقول غير ذلك، في اشتراط الاحتلال عدم تشريح الجثامين عند تسليمها لذويها خشية اكتشاف سرقة أعضاءهم.
حيث تؤكد معلومات شبه رسمية الأسباب الحقيقية لاحتجاز الاحتلال جثامين الشهداء، وفق ما وثقته الدكتورة مئيرا فايس وهي خبيرة إسرائيلية في علم الإنسان في كتابها «على جثثهم الميتة»، عن قضية سرقة أعضاء الشهداء الفلسطينيين في معهد أبو كبير للطب الشرعي في تل أبيب، وهو ما أقر به يهودا هس، المدير السابق لمعهد أبو كبير بسرقة الأعضاء بين الانتفاضتين الأولى والثانية بموافقة القانون.
الاحتلال لم يكتفِ بسجن الأحياء الفلسطينيين ولا احتجاز جثامينهم حتى بعد الموت، بل يطالب بإعدام الأسرى وفق قانون «بن غفير»، وتهجير الفلسطينيين من بيوتهم وهدمها وإعدامهم بالشوارع واعتقالهم وترهيب أطفالهم، وحرمانهم من السفر والتنقل على طرقات وشوارع الضفة الفلسطينية، وتخييرهم بين الهجرة إلى خارج الضفة الفلسطينية أو محاصرتهم في كانتونات للتمييز العنصري على غرار كانتونات النظام العنصري البائد في جنوب أفريقيا أو معسكرات الاعتقال الجماعي في أميركا الشمالية، فهو يخشى مواكب تشييع الشهداء ورثائهم وإقامة النصب التذكارية وإحياء ذكراهم السنوية، ويخشى من هتافات الشعب الفلسطيني. قصص التهجير والنفي والتشتيت والاحتجاز والإعدام والاعتقال والاقتحام، هي قصص كثيرة في أرشيفنا المُغيب والمدفون.
أمام تلك الوقائع الميدانية، لا بد من إقامة متحف وطني للشهداء والمفقودين في كل مدينة فلسطينية لتذكير العالم بجرائم الاحتلال التي تتلاقى مع إجراءات النازية التي كانت تحرق جثامين القتلى.
تختلف ادعاءاتُ الاحتلال وتبريراته لاحتجاز الجثامين؛ تارةً يستخدم تهديد الأمن، وتارةً يستخدم ادعاء تبادل الأسرى، وتختلف الأسس القانونية التي يتكئ عليها؛ تارةً يلجأ إلى لائحة طوارئ بريطانيّة، وتارةً يسنُّ قوانينَ وقراراتٍ جديدة. أياً كانت التبريرات المُعلنة والأرضية القانونية، فإنّ سياسات التحكم بالجسد الفلسطينيّ «الميّت» وتجميده جزءٌ من شبكة القمع الإسرائيليّة التي تسعى دوماً للانتقام من الشّهداء والتمثيل بأجسادهم.
الاحتلال يدرك الذخيرة الرمزيّة التي يكتنزها جثمان الشهيد، ويدرك أهميةَ التشييع كرافدٍ سياسيّ وثوريٍّ يحوّل الشّهداء نماذج للمحاكاة، ولذلك فهو يسعى إلى تجريد الفلسطينيّين من هذا الأفق وعقابهم حتى بعد موتهم■