يدرك الجميع، سواء داخل "إسرائيل" أو خارجها، حجم الأزمة السياسية التي تواجهها حكومة بنيامين نتنياهو السادسة، على الصعيد الداخلي الصهيوني، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بالإضافة إلى علاقات متوترة بالخارج، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية.
فالأزمة السياسية في الكيان المحتل تواكبها أزمتان أمنية وعسكرية، يعانيهما الجيش الإسرائيلي في مواجهة حجم التهديدات المتنامي في كل الجبهات، والأخطر في جبهة الضفة الغربية.
فعلى الرغم من أن المؤسستين العسكرية والأمنية الإسرائيليتين استنفدتا تقريباً، منذ ما يقارب عامين، جميع أدواتهما واستراتيجياتهما الأمنية والعسكرية، في مواجهة المقاومة في الضفة الغربية، بدءاً بعمليات "كاسر الأمواج"، المبنية على استنزاف المقاومة من خلال عمليات الاعتقالات المتواصلة والاغتيالات، مروراً بالعمليات العسكرية المباغتة ضد حركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة، ثم استخدام الطائرات والمسيّرات في اغتيال كوادر المقاومة في شمالي الضفة الغربية، وخصوصاً في مخيم جنين، وصولاً إلى تنفيذ عمليات عسكرية واسعة ضد مخيم جنين، "البيت والحديقة"، والتي تم تجنيد أكثر من ألف من قوات النخبة في الجيش الإسرائيلي فيها من أجل وأد المقاومة في المخيم، بقيادة كتيبة جنين.
إلّا أن مساحة المواجهة مع الاحتلال ومستوطنيه تتّسع جغرافياً، وتستقطب إليها شرائح جديدة من الشعب الفلسطيني، ناهيك بارتقاء أداء المقاومة وتطور أساليبها القتالية، الأمر الذي أدى إلى زيادة وتيرة العمليات الفدائية الفلسطينية، كمّاً ونوعاً.
من الجدير بالذكر أن هناك علاقة تأثيرية متبادلة بين الأزمة السياسية الإسرائيلية الداخلية والأزمة الأمنية ـ العسكرية الخارجية.
مع ارتفاع عدد العمليات الفدائية، والتي وصلت إلى الذروة، مسجّلةً أربع عمليات فدائية في أقل من 24 ساعة، سقط فيها 12 مستوطناً وجندياً، بين قتيل وجريح، جعل نتنياهو وحلفاؤه في الائتلاف من الصهيونية الدينية، أمثال بتسلئيل سيموتريتش وإيتمار بن غفير، في أزمة سياسية داخلية، ليس مع المعارضة العلمانية الليبرالية الصهيونية فقط، على ضوء التعديلات القضائية، وإنما أيضاً مع شريحة المستوطنين في الضفة الغربية، نواتهم الانتخابية الرئيسة، في ضوء تدهور الأوضاع الأمنية وفقدان الأمن الشخصي لما يقارب 700 ألف مستوطن في الضفة الغربية.
أضف إلى ذلك أن ارتفاع وتيرة المقاومة في الضفة الغربية صبّ مزيداً من الزيت على نار الأزمة المتجذرة بين هؤلاء المستوطنين والجيش الإسرائيلي، بسبب قضايا متعددة، في مقدمتها التوسع الاستيطاني، الذي يسعى له المستوطنون بعيداً عن الرؤية الأمنية التي يضعها الجيش الإسرائيلي لخريطة المستوطنات في الضفة الغربية.
تشابُكُ الأزمات، داخلياً وخارجياً، على حكومة نتنياهو، ومعها الجيش الإسرائيلي، يمكن أن يساعد على إجراء قراءة موضوعية لتهديدات نتنياهو باغتيال قادة المقاومة الفلسطينية، وخصوصاً الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، زياد النخالة، الحاج أبا طارق، والقائد أكرم العجوري، مسؤول الدائرة العسكرية في الجهاد الإسلامي، والشيخ صالح العاروري، مسؤول ساحة الضفة في حركة حماس.
وهنا جدير بالتوضيح أن التهديد باغتيال قادة المقاومة ترافق مع استراتيجية جديدة انتهجها نتنياهو، محاولاً عبرها شيطنة المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية أمام المجتمع الدولي، من خلال تصويرها على أنها مقاومة مدفوعة الأجر من إيران، قافزاً بذلك عن حقيقة، مفادها أن علاقة المقاومة الفلسطينية بإيران ليست علاقة تبعية، بل هي تحالف ومساندة.
فالفلسطيني، الذي تم احتلال أرضه من الإسرائيلي منذ خمسة وسبعين عاماً، لا يحتاج إلى تحريض على المقاومة من أي جهة، فكل عوامل تزايد المقاومة وتناميها حاضرة. فالفعل المقاوم مارسه الفلسطيني قبل نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وبعدها. لذلك، فإن هدف نتنياهو الحقيقي هو شرعنة أي خطوة إسرائيلية مستقبلية، بما فيها عمليات الاغتيالات، مهما كانت وحشيتها وتداعياتها ضد الشعب الفلسطيني ومقاومته.
من جهة أخرى، فإن نتنياهو والجيش وجدا الشماعة، التي يعلقان عليها فشلهما في مواجهة المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، من خلال ربط تلك العمليات الفلسطينية الفدائية بمخطط إيراني إقليمي. وبالتالي، فهو يحتاج إلى خطط عسكرية وسياسية بعيدة المدى، تمنح نتنياهو وحكومته الفرصة في احتواء غضب المستوطنين، واتهامهم بالفشل، بينما تناسى نتنياهو أنه، خلال خمسة عشر عاماً، كانت الضفة الغربية فيها جبهة غير مشتعلة عسكرياً ضد "إسرائيل".
وهنا يمكن القول إن تهديدات نتنياهو باغتيال قادة المقاومة الموجودين في الخارج، على رغم جديتها، كونها صادرة عن أعلى هرم في القرار في "إسرائيل"، رئيس الوزراء، وتم توثيقها في جلسة افتتاح اجتماع الحكومة الإسرائيلية، وقبلها في مؤتمر صحافي لنتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت، فإن الجيش والأمن الإسرائيليين مؤمنان بأن تنفيذ عملية الاغتيال لن يوقف عمل المقاومة في الضفة، وبالتالي ينتفي الهدف العملياتي من وراء تلك العملية.
هنا، تبرز أهمية حسابات منطق الربح والخسارة من وراء تنفيذ عمليات الاغتيال لدى صانع القرار الأمني في "إسرائيل"، فهل يستحق حفظ ماء وجه كل من الجيش والحكومة، وفي مقدمتها نتنياهو، أمام مستوطني الضفة الغربية، تنفيذ عملية اغتيال لأحد القادة الثلاثة، الموجودين فعلياً في الأرض اللبنانية، والتي ستؤدي، بالتأكيد، إلى انهيار قواعد الاشتباك بين حزب الله و"إسرائيل"، التي حافظت على الهدوء في الجبهة الشمالية منذ حرب تموز 2006. لذلك، فإن نتنياهو في مأزق حقيقي، وزاد في مأزقه تأكيد الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، معادلة مفادها أن أي اغتيال في الأرض اللبنانية يطال لبنانياً أو فلسطينياً أو إيرانياً سيكون له رد فعل قوي، وخصوصاً بعد الصورة التي جمعت النخالة ونصر الله والعاروري في رسالة تحدٍّ كبيرة إلى الإسرائيلي في ظل تهديداته.
أضف إلى ذلك جبهة غزة، التي ستكون، بالتأكيد، حاضرة عبر كل فصائلها وقدرتها القتالية في معركة الرد على أي اغتيال يطال القادة الثلاثة.
في ظل تلك الحسابات المعقدة، وعدم وجود ضوء أخضر أميركي لإشعال حرب جديدة في المنطقة، وازدياد الحديث عن صفقة تطبيع أميركية سعودية إسرائيلية مرتقبة، يُعِدّ أجواءَها جو بايدن قبل انطلاق السباق على رئاسة البيت الأبيض، من المحتمل أن يلجأ نتنياهو، المخضرم في السياسة الإسرائيلية، تجاه زيادة وتيرة العمليات العسكرية ضد البنى التحتية للمقاومة في الضفة الغربية، مع إمكان تنفيذ عمليات اغتيال لكوادر من المقاومة، سواء من الخارج أو الداخل، خارج الأراضي اللبنانية، مع إبقاء وتيرة تهديداته باغتيال القادة الثلاثة الكبار، في الزمان والمكان الملائمين، ورقةَ توت تغطّي أزمة عجز الجيش والحكومة الإسرائيليَّين عن إيجاد حلول استراتيجية ميدانية لوقف تنامي المقاومة في الضفة الغربية.