عكس اتفاق تبادل السجناء بين إيران وأميركا مستوى النديّة الذي صفع جبروت الغرور الأميركي، وخصوصاً ما تضمنه من الإفراج الأميركي عن 6 مليارات يورو من الأموال الإيرانية المجمدة منذ انتصار الثورة الإسلامية، بما أعطى درساً شافياً للشعوب المستضعفة في طبيعة اللغة التي يفهمها الأميركي.
إنها لغة القوة أو هي معادلة الصبر الاستراتيجي في مشاغلة الأميركي ومغالبته في الميادين التي توتر أعصابه، بما يدفعه إلى الرضوخ. وهنا، جاءت المماثلة الإيرانية في اعتقال 5 من الأميركيين المدانين بالتجسس، وهو فعل تجبن عنه غالبية دول العالم، لترسي معياراً سياسياً أمنياً عابراً للقارات والقدرات، وخصوصاً أن الأميركي يحق له في العرف العالمي الكسيح ما لا يحق لغيره.
كسرت إيران منذ انتصار ثورتها حاجز الهيبة الأميركية في جوانب جوهرية عديدة، وهي التي احتجز طلبتها الجامعيون غداة الثورة مئات الأميركيين في سفارتها في طهران فترة طويلة من الزمن، ما أهّلها لاحقاً لمقارعة العربدة الأميركية على امتداد الإقليم، كما العالم، عبر البحار وحتى المحيطات، وصولاً إلى فنزويلا، جنوب أميركا، في عملية كسر جريئة للحصار الأميركي على تلك الدولة الأميركية الجنوبية المتحررة من قبضة واشنطن.
لذا، اضطر الأميركي، وخلال هذا العقد، إلى إجراء 3 صفقات لتبادل السجناء مع إيران، كان أولها في عهد أوباما عام 2016، وشمل 5 أميركيين و7 إيرانيين. وعام 2019، اضطر دونالد ترامب في أوج انفعاله الجنوني ضد إيران إلى الإفراج عن الأكاديمي الإيراني مسعود سليماني مقابل الجاسوس الأميركي شيوي وانغ، وهو ما تكرر عام 2020 بالإفراج الأميركي عن عالميْن إيرانيين في مقابل جندي أميركي كان محكوم بالسجن لمدة 10 سنوات في طهران.
ما يميّز اتفاق تبادل السجناء بين واشنطن وطهران هو الاضطرار الأميركي إلى الإفراج عن المليارات من أموال القرصنة الأميركية، بما يعيد عقارب الساعة إلى الوراء 4 عقود، إذ لم يعد الأميركي سيد العالم في وجه إيران، وكوريا الجنوبية الخاضعة للسيف الأميركي تمرر عبر الوسيط القطري مليارات إيرانية محتجزة بحكم أميركي جائر، وهو حكم خارج الإرادة الدولية والأممية بحق دولة عضو في الأمم المتحدة.
واليوم، تضطر الولايات المتحدة خانعة إلى إعادة هذه الأموال، وإن باشتراط استخدامها في شأن إنساني واقتصادي، فهي في كل الأحوال دخلت البنك المركزي الإيراني لتضخ فيه سيولة تساعد في كسر الحصار الأميركي القائم ضد الاقتصاد وكل أشكال النشاط الإنساني الإيراني.
الأموال الإيرانية المستعادة دفعت رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى انتقاد هذا الاتفاق بين واشنطن وطهران، لأنه يمرر هذه الأموال لما اعتبره عناصر "إرهابية ترعاها إيران"، ولعله يقصد هنا المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة، وهي تؤرق مضجعه، فيصيح صباحاً مساءً متهماً إيران بتمويلها.
كشف هذا الاتفاق حقيقة الوجه الأميركي وطبيعة سياسات النهب التي تتبناها الدولة العميقة في أميركا، وهي سياسات ثابتة تعكس الفكر السائد في العقل الأميركي الذي يستبيح كل الحرمات لتمرير مشاريعه العدوانية على امتداد المعمورة.
أن تتمكن دولة شرق أوسطية من دول العالم الثالث، وهي دولة إسلامية محاصرة أميركياً منذ عقود، من إجبار الأميركي في أوج حربه على روسيا وحدّة مواجهته مع الصين على إعادة أموال منهوبة منذ عقود، بما تحمله من دلالة رمزية مكثفة في فضح السياسة الأميركية وكشف عري أدواتها في المنطقة، فلا الحصار الظالم، ولا نهب الأموال، ولا اعتقال الأبرياء، يمكنه أن يثني إيران عن ثوابتها الوطنية والإسلامية والإنسانية.
ولكنها الندّية وحدها التي ترغم الأميركي على النظر في وجه خصومه، رغم الفارق الهائل في القدرات الاقتصادية والعسكرية، وقد اعتاد أن لا يرى غير نفسه، فلا يحق لتركيا، مثلاً، أن تعتقل القس الأميركي برونسون، رغم ثبوت تواطؤه في محاولة انقلابية ضد تركيا. هكذا يتجسس الأميركي ويمارس الإرهاب ضد كل دول العالم، ولكنه يتمتع بحصانة حيثما حلّ أو ارتحل.
احتاجت واشنطن إلى 6 أشهر لتقبل الواقع الجديد؛ واقع الإفراج عن الأموال الإيرانية، وهو ما ظهر في النفي الأميركي الرسمي والحادّ لوجود اتفاق كهذا، عندما أعلنت إيران في شهر آذار/مارس الماضي توصلها إلى هذا الاتفاق مع واشنطن، فخرج المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض لينفي التصريح الإيراني ويعتبره كاذباً ومجرد زعم واختلاق للأمور، ولكن جو بايدن خرج اليوم مع وزير خارجيته بلينكن ومنسق اتصالات مجلس أمنه القوميّ للترحيب بالاتفاق المنجز والتبرير بأن الأموال الإيرانية المجمدة كانت طوال الوقت متاحة لأغراض إنسانية، وأن وقف تحويلها ممكن إذا استخدمت لغايات غير إنسانية.
الكذب الأميركي قبل 6 أشهر في نفي وجود اتفاق مع إيران، كما تكرار الكذب حول إنسانية تلك الأموال منذ احتجازها، يشير إلى مستوى الإرباك الأميركي في التعامل مع النديّة الإيرانية واحتمال تسربها إلى بقية شعوب المنطقة، وهي ترى فيه الأسلوب الوحيد الناجع في مواجهة العنجهية الأميركية.
لكن الأميركي كان صادقاً وهو يطمئن حليفه الإسرائيلي الموجوع من هذا الاتفاق، كما أدواته الإقليمية، إلى أن حالة العداء بين واشنطن وطهران ستبقى قائمة، وأن هذا الاتفاق لا يصلح لبناء ثقة بين الطرفين، بحسب تصريحات جون كيربي، متجاهلاً أن السياسة الإيرانية بهذا الخصوص، حتى مع توقيع الاتفاق النووي عام 2015، ظلت تعتبر أميركا الشيطان الأكبر في العالم، تبعاً لعقيدتها السياسية التي أرساها مؤسس الثورة، كما مرشدها الحالي، باعتبار الثورة الإسلامية ومحورها المقاوم في صراع أبدي مع الهيمنة الأميركية ورأس حربتها في "تل أبيب".