عقدة الغفران تتطلب التفريغ، إن لم يكن في القدس عبر التدنيس، ففي غزة أو طولكرم وجنين، عبر القتل والغارات والاقتحامات.
غداة عيد الكفّارة الحالي، وصف يائير لابيد حال "تل أبيب" بقوله: "إنها الحرب التي لا غفران فيها. ليست حرب أكتوبر المجيدة، ولكنها حرب ديزنكوف في قلب تل أبيب النابضة بالحياة والأضواء على أطلال يافا وتل الربيع"، وهو هنا يتحدث بوصفه أحد سكان ديزنكوف، وليس زعيماً للمعارضة الليبرالية، في وجه حكومة مسيحية أو إيرانية، بحسب وصف أفيغادور ليبرمان؛ اليميني العلمانيّ الإسرائيلي المتطرف.
ليست حرب أكتوبر إذاً وما غرزته من عقدة نفسية وأمنية في العقل الجمعي لكيان الاحتلال منذ 5 عقود، ولا العمليات الفدائية التي زادت نسبة الإنذارات الأمنية حولها 15% عن المعتاد، كعملية هنادي جرادات التي وقعت بين عيدي الغفران والعرش قبل عقدين من الزمن، في ظل إنذارات أمنية متصاعدة في واقع أمني سياسي هشّ تطلّب نشر عشرات الآلاف من رجال الشرطة على طول الداخل الفلسطيني المحتل وعرضه، إضافةً إلى أكثر من 20 كتيبة من "جيش" الاحتلال منتشرة أصلاً في الضفة الغربية.
وبحسب القائد العام لشرطة الاحتلال، فإن الصمت الأمني في يوم الغفران هو صمت خادع. لذا، أمر بتحديث تعليمات الاستنفار حتى عيد العرش الذي يأتي بعد 5 أيام من الغفران.
عام 1985، رأيت بأمّ عيني أثر عقدة الغفران في العقل الإسرائيلي أو جانباً من جوانبها، ولم يكن قد مرّ على حرب أكتوبر وتدمير خط بارليف سوى عقد ونيّف. كنت أسيراً في سجن نابلس الإسرائيلي، وكنت أمثّل الأسرى الأشبال أمام إدارة السجن، ولم يكن عمري قد تجاوز الرابعة عشرة، وقد تهامس ضباط السجن وكانوا في حالة استنفار، فثمة زائر غير معتاد.
همس ضابط السجن في أذني، وهو يبلغني عن هذا الزائر، قائلاً لي: هذا ليس وزير الشرطة فحسب. إنه مؤسس أخطر جدار أمني في العالم؛ خط بارليف. وقد أطلقوا عليه اسم مؤسسه حاييم بارليف الذي أصبح وزيراً للشرطة المسؤولة عن هذا السجن، بعدما كان في حينه رئيساً لأركان "الجيش".
دخل بارليف السجن مستكشفاً، وليس لمعاينة مشكلات الأسرى. على أي حال، طلبت منه أن ينظر في وجبة الغداء المقلصة من أسير لاثنين، فنظر بعجرفة ومضى، رغم منظره المسخ، ولكنه جاء ليطمئن إلى مستوى الضبط الأمني في السجن، فهو مسكون بعقدة الجدار الأمني الشهير الذي أقامه، وسبق أن روجت المؤسسة العسكرية والآلة الإعلامية الإسرائيلية بأنه لا يستطيع شيء تدميره غير القنبلة الذرية، ولكنه يا للحسرة تهاوى مع تكبيرات جنود الجيش المصري في سيناء، وهم يجتثونه من جذوره بضغط المياه تحت الرمال، ليتحول بأس هذا الجدار إلى معضلة نفسية أمنية تتردد أصداؤها مع كل عيد للغفران الديني.
لم تقع الحرب مع غزة، رغم التوتر المتصاعد طوال العيد، ولم تتعكّر أجواء الغفران بعمل فدائيّ، ولكنها حرب المتدينين اليهود في تقديم نسخة واحدة لليهودية وقمع كل النسخ الأخرى، وقد قال لابيد: "أمر مخزٍ أنهم باسم الله دمروا يوم الغفران في الحي الذي أعيش فيه"، ولكن زعيم حكومة الاحتلال في الائتلاف اليميني بنيامين نتنياهو رأى أن ما جرى هو "قيام متظاهرين يساريين بأعمال شغب ضد اليهود أثناء صلواتهم"، وأضاف: "لا توجد حدود للكراهية من جانب متطرفي اليسار".
هذه الكراهية اليسارية لصلوات اليهود، وهذا الشغب الذي منع الصلاة في شارع ديزنغوف، دفع المسمّى وزيراً للأمن الداخلي إيتمار بن عفير، وهو المفترض أنه المسؤول الأول عن الأمن في شوارع "تل أبيب"، إلى التصعيد الميداني بإعلانه الصلاة في الشوارع العامة يوم الخميس المقبل، لأن "إسرائيل" دولة يهودية. لذا، سيقيم صلاة مسائية في الساحة، والدعوة عامة.
والصّلاة هنا في الساحات العامة فيها فصل بين النساء والرجال، وهو ما دفع المعارضة الليبرالية إلى الاحتجاج، ثم الاشتباك، بما فرض على بن غفير الاستجابة للتحدي، ولكن رئيس بلدية "تل أبيب" العلماني استبق صلاة بن غفير المسائية، وخاطب قائد شرطة "تل أبيب" بأن يتأكد أن الصلاة ستقام من دون حواجز وفواصل مادية بين الجنسين.
هاجس الأمن والدين في يوم الغفران الإسرائيلي المعاصر ارتدّ إلى الداخل في الثنائية ذاتها، وهو الذي أراده الرب كفّارة لعبادة بني إسرائيل العجل الذهبي الذي أقامه السامري في ظل غياب نبي الله موسى، لكي {تُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ وَتُقَرِّبُونَ وَقُودًا لِلرَّبِّ}، وهو ما ذكره الله في القرآن الكريم بقوله عن السامريّ: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا؟}.
تنبّه نتنياهو لهذا الارتداد الداخلي الثنائي في جانبيه الديني والأمني، فاستدعى هاجس الحرب، وأيقظ عقدة أكتوبر من عقالها، ربما تحسباً لصلاة بن غفير العامة مساء الخميس، وقد صعد على جبل القدس الذي يسمونه جبل هرتزل في تأبين قتلى حرب أكتوبر البالغ عددهم قرابة 3 آلاف، قائلاً: "إذا فرضت علينا معركة، فإن ما يجمعنا سيتغلب على ما يفرقنا. لدينا جيش واحد وماضٍ واحد". هذه الفرقة رآها زعيم حركة شاس الدينية التقليدية أرييه درعي كسراً للقلب، وصرخة للسماء، وسوء حظ تم فيه تجاوز كل الحدود عندما وقف اليهود ضد اليهود.
ولعل ذلك ما دفع المستوطنين إلى استدعاء هذا الماضي المشترك بالاحتفال بالغفران عبر شتم نبي الإسلام في أزقة القدس العتيقة، وهم يرقصون على قبور المسلمين والصحابة والفاتحين في مقبرة باب الرحمة، فعقدة الغفران تتطلب التفريغ، إن لم يكن في القدس عبر التدنيس، ففي غزة أو طولكرم وجنين، عبر القتل والغارات والاقتحامات، فلا يستشعر الصهيوني مغفرة الرب يهوه إلا على أشلاء الضحايا والأبرياء.