خالد بركات
كان صديقنا الرّاحل د. سماح إدريس يُكرِّر باستمرار أنّ السلطة الفلسطينيّة التي أسهمتْ في مسخ القضيّة وتخلّت عن فلسطينيّي المخيّمات والشتات، جعلت بعض البسطاء في الوطن العربي يصرِّحُون بالفم الملآن: «وأنا مالي ومال الفلسطينيّين؟ هم تصالحوا مع إسرائيل، فلماذا تريدني أن أكونَ ملَكيًّا أكثر من الملك؟» وقد كان محقًّا. فالرفيق سماح إدريس من المثقفين العرب القلائل الذين لم يخدعهم الدليل الفلسطيني الكاذب. لذلك أشهر سيفه وقلمه ضد «كيان أوسلو» والنظام/ المثقف العربي المهزوم/ الذي برّر الاتفاق، واعتبر هذا الكيان خنجرًا مسمومًا في ظهر فلسطين ولبنان وكل العرب.
بعد مُضيّ 45 عامًا على توقيع معاهدة «كامب ديفيد» 1978 وخروج مصر من الصراع ومن العصر والتاريخ أيضًا، وبعد مرور 30 عامًا على توقيع اتفاق أوسلو الخياني والحصاد المُرّ للتجربة الفلسطينية وما جرى من هزائم عربية رسمية (اتفاقية وادي عربة)، وصولًا إلى ما يسمّى «الاتفاق الإبراهيمي» السيّئ الاسم. بعد هذه التجربة التي اقترب عمرها من نصف قرن، تتكشف أضلاع هذا المعسكر الرجعي، الذي يُعَدّ كيان «أوسلو» الضلع الأضعف والأخطر فيه، لأن سلطة «أوسلو» العميلة ترتكب كل جرائمها باسم الشعب الفلسطيني وباسم القضية المركزية للأمّة، وتطلق عليها: اتفاقيات وتفاهمات!
نعم، الكيان «الفلسطيني» العميل الذي تأسّس عام 1994، وجاء كحلقة نوعية وخطيرة في مسار الاستسلام للعدو الصهيوني، بات يُشكل خطرًا داهمًا على أمن شعوبنا العربية ومستقبلها، ويجب التعامل معه بوصفه فرقة من المرتزقة تعمل في خدمة معسكر العدوّ الصهيوني الأميركي، أكثر خطرًا من نموذج «جيش لحد» المقبور، فهذا الكيان – الأداة – داخل فلسطين المحتلة تكشّفت حقيقته وطبيعة دوره أمام الأكثرية الشعبية الفلسطينية المُعذّبة والمقصيّة، التي أصبحت تدرك الخطورة الكبيرة للأجهزة والشرائح الطبقية التي شكّلت «الجسر الفلسطيني» الذي سيعبر عليه الصهاينة لاختراق المجتمعات العربية اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا وأمنيًا، ولم يعد الكيان الصهيوني في حاجة إلى تقديم أيّ «إغراءات» أو «امتيازات إضافية» لسلطة تابعة له، بل أصبح يقوم أحيانًا بدور الواسطة بين السلطة في رام الله وأنظمة عربية!
وإذ تدرك شعوب الأمة أنّ أميركا والعدو الصهيوني والكيانات العربية المستسلمة لمشيئة النظام الإمبريالي الصهيوني (تحديدًا أنظمة التطبيع) بأنها أدوات تعيق مشروع العرب النهضوي ومستقبلهم ووحدتهم، عليها ألّا ترتبك أمام «الضلع الفلسطيني» لأنه «فلسطيني»! فالانتساب إلى فلسطين ليس بـ«الدم» ولا بأغنية محمد عساف «أنا دمي فلسطيني» فتلك «وطنية فلسطينية» مزيفة، ومن هنا بالذات، تتضاعف مسؤولية طلائع الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة ومسؤولياتها القومية، فأن تكون فلسطينيًا ليس امتيازًا، بل مسؤولية والتزام وموقف
وتعرف الشعوب أن الهزائم العربية الرسمية جَرَت في الغُرف المظلمة، داخل بازار المفاوضات والتطبيع، هذه أشدّ وألعن من أيّ هزيمة عسكرية في الميدان. لأنها هزيمة دونما قتال، تنتشر كالوباء، لذلك فإن نظام التطبيع الذي يشكل «كيان أوسلو» رأس حربته في المنطقة هو في الجوهر عدوانٌ خطيرٌ من نوع آخر وحربٌ على الوعي والأرض والحقوق والثقافة أيضًا!
أسَّست قوى الاستعمار ـــ وأداتها الحركة الصهيونية – «دولة إسرائيل» عام 1948 مشروعًا استعماريًا استيطانيًا في فلسطين، ومُعطِّلًا وكابِحًا لوحدة الشعوب العربية ونهضتها، وتكريسًا للهيمنة الغربية على المنطقة. كما أسَّست كيان «أوسلو» العميل برعاية القوى ذاتها لتعزيز قدرة الكيان الصهيوني وتمكينه من وظيفته في المنطقة. وإذا كان «كامب ديفيد» عنى سقوط القلعة العربية الأكبر، فإنّ «أوسلو» أدى إلى سقوط القلعة العربية المتقدمة واحتلالها من الداخل بمعاونة نظام كامب ديفيد، وهكذا صار «الممثل الشرعي الوحيد» أداةً صهيونية أميركية، وسلاحًا قاتلًا إضافيًا في جعبة الاحتلال وترسانته.
صحيحٌ أن «كيان أوسلو» له وظيفة أمنية واقتصادية محددة، منصوصٌ عليها ألّا تتجاوز حدود ما يسمّى «يهودا والسامرة»، غير أن حجم الدمار والخراب الذي أحدثه على الصُّعد كافة، طاول الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، ولم يقتصر الأمر على تخريب «الساحة الفلسطينية»، بل بات نظام أوسلو «برغي مهم» له وظيفة في تشغيل ماكينة الاستعمار الصهيوني في كل المنطقة، لذلك تراه في قلب المؤامرة الدائرة في مخيم «عين الحلوة» وأصابعه تعبث بأمن لبنان وتشكل عبئًا على الشعبَين الفلسطيني واللبناني في آن واحد.
إنّ أجهزة «السلطة الفلسطينية» الأمنية لا تستهدف المقاومة في قرى الضفة ومخيماتها ومدنها لحساب الولايات المتحدة وإسرائيل وطبقة السلام الاقتصادي فحسب، بل يستنفر الأمن الوطني في «عين الحلوة»، يريد «محارية الإرهاب» و«القوى التكفيرية» و«الجماعات التي تدعمها حماس في لبنان والمنطقة»!
كيان «أوسلو» جزءٌ في بنية النظام الاستعماري، ويعمل في إطار المنظومة الأمنيّة الإسرائيلية داخل ما يسمّى «المناطق» في فلسطين المحتلة، لكنه اليوم تجاوز موقعه المُهَدِّدْ للقضيّة والحقوق الفلسطينية، إلى موقع من يهدّد شعوبنا العربية. إنه طعنة مسمومة في ظهر كل مقاومة عربية في المنطقة، يقوم بتلميع سياسات أنظمة التطبيع وتشريعها واستدخال الهزيمة، ويعمل في العلن على شيطنة «حماس» و«الجهاد» و«حزب الله» وكل تيار وحركة وشخصية مقاومة.
لنتذكّر كيف وقف محمود عباس في القمة العربية 2015 يتحدث باسم الشعب الفلسطيني ويبارك الحرب السعودية الوحشية على الشعب اليمني الشقيق. أراد النظام السعودي أخذ «الختم الفلسطيني» مقابل حفنة دولارات. واليوم، يقوم نظام أوسلو بتسهيل مهمة النظام السعودي في صفقة التطبيع القادمة بين آل سعود وكيان العدو، هكذا تحوّلت قيادة «م. ت. ف.» إلى سمسار مأجور يعمل في خدمة مصالح أميركا وأنظمة النفط. حلفاء في الحرب والسلم معًا!
لقد حَذّر القائد الشهيد د. فتحي الشقاقي في عشرات المقالات والخطابات الموثّقة بين (1991- 1994)، من المخاطر الكبرى التي يحملها مسار مدريد – أوسلو على قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه، غير أنّه اعتبر رفض بعض الفصائل الفلسطينية للاتفاق لأنه يعطي 22% من الأرض فقط مقابل التنازل عن 78% من فلسطين موقفًا يحتاج إلى المراجعة. فالعدو الصهيوني، بحسب الشقاقي، يريد أن يأخذ كل فلسطين وسينطلق من «أوسلو» لاختراق الوطن العربي كله من المحيط إلى الخليج.
يتكئ النظام العربي الرسمي على موقف «إخوانه الفلسطينيين» ليبرر عجزه ومساره التطبيعي، ويتّكئ نظام أوسلو على «عجز العرب» كي يبرر تنازلاته وسقوطه في وحل التنسيق الأمني، والقبول بما تحدده «الجامعة العربية» و«مبادرة السلام العربية» التي لم يعد يذكرها أحد. ولم يعد الأمر يقتصر على أنظمة النفط. فإذا أراد النظام في الجزائر، مثلاً، تسويق سياساته وصورته داخليًا، استقبل جبريل الرجوب ومنتخب «الفدائي» لكرة القدم، واحتفى بالرئيس الفلسطيني، وسيكثر من الحديث عن «الدولة الفلسطينية»، فيما الحقيقة أن نظام أوسلو هو نسخة كربونية عن «الحركيين» الذين كانوا أدوات الاستعمار الفرنسي. كما أن وقوع خلافٍ أو تباينٍ بين نظام عربي مع المقاومة أو أحد أطرافها ليس مبررًا لتعزيز علاقاته مع محمود عباس وفريقه!
وبالعودة إلى «الثور الكبير الهامل» في هذا القطيع العربي الرسمي (نظام كامب ديفيد في القاهرة)، فإن العلاقة التي تجمعه مع «كيان أوسلو» ونظام الملك عبد الله الثاني في الأردن علاقة المصير الواحد. هذا المثلث الرجعي له وظيفة محددة في استراتيجية معسكر العدو بسبب خطورة موقعه الجغرافي والتاريخي والسكاني، وعلى القوى الشعبية المصرية – الأردنية – الفلسطينية التي تنتصر لمعسكر المقاومة أن تعلن أنها تقف ضد السياسات الأميركية والصهيونية والتطبيع، وألّا تظل متفرجة قانعة بدور ديكوريّ خجول، بل يجب استنهاض دورها المقاوم في التصدّي لهذا المثلث، وبناء البديل الشعبي الثوري وتعزيز الحوار والنضال المشترك في مواجهة التطبيع.
المطلوب من الحركات الشعبية العربية الجذرية على مستوى الوطن العربي أن تعزل نظام أوسلو، وتعلن موقفًا ضد قيادة منظمة التحرير ودورها التدميري التخريبي، وهذا يشترط أن تتحرّك قوى المقاومة الفلسطينية أولًا، وتسير خطوة سياسية جريئة واحدة إلى الأمام، فتعلن انطلاقة وتأسيس جبهة وطنية عريضة وموحّدة للمقاومة والتحرير. لأن مهمة المقاومة الفلسطينية لا تقتصر على مواجهة العدو الصهيوني فقط، بل ومواجهة كل أدواته في المنطقة وبخاصة أدواته الفلسطينية.
نقلاً عن "الأخبار" اللبنانية