في تشرين المقاومة نتذكر قمر من أقمار الجهاد والمقاومة المجاهد مصباح حسن الصوري .. نتحدث عن سيرة شهيد عاش في عصرنا بجسده لكنه كان يحمل صفات الصحابة الأطهار، لقد كان مثالاً للرجل المؤمن المجاهد الخلوق المتسامح الفذ الواعي القارئ المثقف الملتزم الطائع البار بوالديه ..إنه الشهيد المجاهد مصباح حسن الصوري .. قنديل هذا الزمان ومصباحه الذي ينير لنا الطريق بسيرته في حلكة الزمان المظلم .. وفي ذكراه لا بد أن نقف على سيرته ونتأملها لعلنا نقتبس منها ما يعيننا على الصبر، فهو بشهادة كل من عصروه، نموذج فريد للشاب المسلم الذي يحتذى.
يصادف اليوم الأحد الموافق 1- 10 الذكرى السنوية السادسة والثلاثون لرحيل الشهيد القائد "مصباح حسن الصوري"، أحد قادة حركة الجهاد الإسلامي وقائد عملية الهروب الكبير من سجن غزة المركزي، والذي ارتقى للعلا شهيداً بتاريخ 1-10-1987م، خلال كمين نصبته قوات الاحتلال بمنطقة جحر الديك جنوب مدينة غزة.
طفولة مؤلمة
ولد الشهيد القائد مصباح حسن عبد الرحمن الصوري في تاريخ 1 - 1 - 1954م، بمخيم المغازي للاجئين حيث المعاناة والتشرد وسوء المسكن وانعدام متطلبات الحياة، لأسرة فلسطينية مؤمنة بالله، تعود جذورها إلى بلدة "أسدود" التي هجّر أهلها منها عنوة في عام 1948م.
عاش شهيدنا مصباح كما كل فلسطيني على وقع المجازر الصهيونية والنكبات، ليرى بأم عينيه جنود الاحتلال الصهيوني الذين اغتصبوا أرضه وطردوا أهله، وهم يرتكبون المزيد من جرائم القتل والتهجير، والاستيلاء على ما تبقى من فلسطين بالإضافة إلى سيناء والجولان، لتتبلور في ذهنه فكرة العمل الفدائي المقاوم للاحتلال والرغبة في الثأر والانتقام من العدو الصهيوني المتغطرس.
التحاق بالمقاومة
ما إن بلغ شهيدنا مصباح الحلم، حتى التحق بقوات التحرير الشعبية، حيث شارك وقتها في تنفيذ العديد من العمليات البطولية، أصيب في إحداها برصاصة في أعصاب يده اليسرى سببت له شللاً جزئياً، وقد اعتقل في تلك العملية وحكم عليه بالسجن ثلاثين عاماً، لينتهي فصل من حياة ذلك الإنسان المكافح ويبدأ فصل آخر بين جدران السجن الرهيب.
رجل من زمن الصحابة
وتمكن شهيدنا مصباح أثناء فترة اعتقاله من إتمام حفظ القرآن الكريم حفظاً متقناً كأحسن ما يكون الحفظ، فتراه يتلو سورة البقرة كما يتلو أحدنا الفاتحة بلا سهو أو خطأ أو توقف وفي وقت سريع بدرجة كبيرة نسبياً، كما كان رحمه الله يعلم الواجب المترتب على حفظ كتاب الله.. فكان سلوكه سلوك المسلم التقي المجاهد، فتراه مراجعاً لكتاب الله، سواء بالصلاة أو بالقراءة من المصحف الشريف، كما كان حريصاً على عدم إضاعة الوقت وهدره فكان يستغله أطيب استغلال وأحسنه، حيث كان يطالع الصحف العبرية والانجليزية أثناء تناوله لوجبة الطعام أو الشراب حتى لا يضيع وقتا في الطعام والشراب لإيمانه القوي بأهمية الوقت وحتى وهو داخل زنازين الاحتلال.
تميز شهيدنا مصباح برفعة أخلاقه النبيلة وسيرته العطرة وصفاء قلبه وحسن معاملته وطاعته لوالديه، فكان رحمه الله مؤدباً ملتزماً، فزاده حفظ كتاب الله التزاماً وتأديباً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: "إن الله بهذا القرآن يرفع أقواماً ويضع به آخرين" كما روى الإمام مسلم.
ويصفه أبو الوليد أحد من عاصروه قائلا: "لقد عاش الشهيد مصباح في عصرنا حياة الصحابة الأطهار.. كان رحمه الله مثالاً للرجل المؤمن المجاهد الخلوق المتسامح الشجاع الفذ الواعي صاحب الكرامات التي لا تعد ولا تحصى". وتابع أبو الوليد: لقد تمنى كل من عاصروه ورفاقه من الشباب المؤمن المجاهد أن يلقوا الله معه شهداء على طريق ذات الشوكة".
سجون مأساوية
اعتقل الشهيد مصباح في الفترة الذي كانت فيه السجون والزنازين أسوأ ما تكون من الازدحام، حيث يتكدس فيها الأسرى الأبطال بلا غطاء ولا ملابس، إلا مما يستر البدن، ويحصلون على قليل من الطعام الذي تعافه النفس الإنسانية، إضافة إلى سوء تهوية السجون وعدم نظافتها، ناهيك عما يتلقاه الأسرى من إهانات يومية من المحققين والسجانين، غير أن ذلك لم يؤثر على روح مصباح العالية ولا على إيمانه وإصراره على مواصلة الطريق.
جريمة بشعة
لقد أقدم العدو الصهيوني على ارتكاب جريمة يندى لها جبين الإنسانية بحق شهيدنا مصباح عندما قاموا بإجهاض زوجته وقتل جنينها أثناء تواجده داخل زنازين الاحتلال ظناً واعتقاداً منهم أن ذلك سينهي ذكر شهيدنا مصباح، لكن نور مصباح أبى إلا أن يبقى فكثرت المصابيح التي شاركت في الانتقام والتي تدفقت لنيل الشهادة ولا زالت تتدفق وتتحدى الأعداء.
الانضمام لحركة الجهاد الإسلامي
في تلك الفترة العصيبة من نضال الأسرى الأبطال شارك شهيدنا مصباح في إضراب الأسرى الذي استمر لمدة أسبوع، حتى أقدمت إدارة سجن "يونا" على قمع الأسرى ونقلهم إلى سجن بئر السبع، حيث اطلع شهيدنا مصباح في ذلك الوقت على الدراسات الإسلامية وفكر الإسلام الثابت والواضح في مواجهة أعداء الله. فتعرف على الخيار الأمل خيار "الوعي، والإيمان، والثورة" خيار حركة الجهاد الإسلامي، فانطلق شهيدنا مصباح ومن معه بالدعوة إلى الجهاد والتنظير والحث عليه في كل المناسبات.
محاولات متكررة للهروب
رغم انشغال الصوري بكتاب الله تعبداً وحفظاً، واستغلاله لوقته حسن استغلال إلا أنه لم يكن ليترك التفكير في الحرية.. ويسعى لها، لا للدعة والراحة أو متاع حياة الدنيا بل لأن السجن يمنعه من شيء يملأ عليه حياته وهو الجهاد في سبيل الله بكل معانيه.
وحاول الشهيد مصباح خلال فترة اعتقاله في سجن بئر السبع الهرب من السجن أكثر من مرة، وقد اكتشفت شرطة سجن الاحتلال المحاولتين وأودع الشهيد مصباح في السجن الانفرادي لمدة شهرين إلى أن جاء تبادل سنة 1985م الشهير وكتب لمصباح السلامة ونيل الحرية.
في الوقت الذي أفرج فيه عن مصباح توفى والده في حادث طرق مروع بالقرب من وادي غزة، غير أن موت والده لم يمنع الشهيد مصباح من السعي إلى هدفه الوحيد وهو الجهاد في سبيل الله، ليعتقل مرة ثانية مع إخوانه من حركة الجهاد الإسلامي ليبدأ شهيدنا مصباح التفكير في الهروب لمواصلة الجهاد، فلم يكتب له بداية النجاح رغم محاولته الجادة، ليتمكن في المرة الرابعة من بلوغ مرامه والهروب من سجن غزة المركزي "السرايا" في عملية هروب ناجحة لا يجد فيها عقل الإنسان تفسيرا، غير أنها توفيقا كاملاً من الله عز وجل، وقد هيأ الله لنجاح خطته أسبابا لعلمه تعالى بصدق نوايا مصباح وإخوانه المجاهدين، فكان لعملية الهروب أثر عميق ومبهج وسار للشعب الفلسطيني وخاصة أن سجون الاحتلال تخضع لتحصينات مشددة و معقدة، كما كان لهروبه وزملائه الأثر الخطير على الكيان الصهيوني، خاصة وأن أحد الناجين كان محرراً وآخر كان له اشتراك في عملية طعن صهاينة.
إصرار على البقاء والاستشهاد
ورفض الشهيد مصباح وإخوانه بعد عملية الهروب الشهيرة أن ينجوا بأنفسهم ويتنفسوا الصعداء، فأنّى للمجاهد أن يعرف الراحة قبل لقاء الله وهو قد عاهد ربه على الجهاد، فينطلق الشهيد مصباح وإخوانه المجاهدون لينفذوا أروع العمليات البطولية التي أثارت الرعب والخوف والهلع في نفوس اليهود.
استطاع الشهيد القائد مصباح الصوري في تاريخ 25 أيار/مايو 1987م، وذلك بعد أيام من عملية الهروب الكبير من سجن غزة المركزي، قتل ضابط المخابرات الصهيوني «غاليلي غروسي» على مفترق ناحل عوز شرق الشجاعية بعد محاولة لأسره.
وانشغل الشهيد القائد مصباح في ذلك الوقت في البحث عن السلاح من أجل قتال أعداء الله، وحاول الخروج إلى سيناء لشراء السلاح، إلا أن الاحتلال اعتقله بعد أن أصيب بعيارات نارية في أنحاء متفرقة من جسده، فيما استشهد اثنان من مرافقيه قتلهم جيش الاحتلال الصهيوني بوحشية.. بل ذهب حقد العدو الصهيوني إلى حد نسف بيت أسرة الشهيد مصباح المكون من سبع غرف وهم متأكدون أنه لم ينم فيه ليلة واحدة بعد هروبه من السجن، لكنه الحقد الصهيوني الأسود على ذلك البطل.
موعده مع الشهادة
وقد تم نقل الشهيد مصباح إلى أقبية التحقيق وهو ينزف، حيث تعرض للضرب بوحشية لكي يعترف للمخابرات الصهيونية عن مكان إخوانه الذين هربوا معه من السجن، لكنه أبى وفضل الاستشهاد تحت التعذيب الشديد على أن يدلي بمعلومة تدل على مكان إخوانه، ليلقى الله مقبلا غير مدبر كما تمنى وسعى، فهنيئاً لك أيها القائد البطل هذا الاصطفاء والاختيار الرباني فأنت بحق النموذج الذي يحتذى به.
كان استشهاد مصباح ورفاقه بمثابة الفتيل الذي أشعل الانتفاضة المباركة كما ثورة القسام التي أشعلت ثورة 1936م، فعلى الرغم من السنين العديدة التي مرت على استشهادهم لازال حي الشجاعية شاهدا على انطلاقة الشهداء الخمسة وكل فلسطين التي فرحت بهروبهم من سجن غزة المركزي وعاشت أجواء الانتصارات التي كان حققها الشهداء ضد بني صهيون رغم عمرهم القصير على هذه البسيطة.