صالح النعامي
قدم مساعدو رئيس الوزراء الصهيوني، بنيامين نتنياهو، تفسيراً تبسيطياً لموافقته على دفع مئات ملايين الدولارات لمؤسسات الأحزاب الدينية الحريدية، لمجرد إقناعها بالانضمام إلى حكومته الجديدة؛ حيث عزوا ذلك إلى وجود فائض في الموازنة العامة، يسمح بأن يكون "كريماً" مع هذه الأحزاب. فاجأ وجود فائض في الموازنة، يمنح نتنياهو الفرصة لتشكيل حكومته العتيدة في أفضل ظروف ممكنة، معلقين كثيرين في تل أبيب. لكن، لا شك في أن هناك علاقة غير مباشرة بين ظروف تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة والثورات المضادة في العالم العربي. فلولا هذه، لما كان في وسع إسرائيل أن تنعم بفائض في الموازنة، يسمح لنتنياهو بكل هذا الترف، في محاولاته إقناع الأحزاب الدينية بالانضمام لحكومته. فيكفي أن نعلم أنه، في أعقاب ثورة 25 يناير وخلع الرئيس حسني مبارك، قدرت إسرائيل قيمة النفقات الأمنية التي يتوجب عليها تخصيصها لمواجهة التحديات المتوقعة على الجبهة الجنوبية فقط بـ 25 مليار دولار (ميكور ريشون، 28/6/2012). ليس هذا فحسب، بل اعتبر وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، في حينه، أن مصر باتت أكثر خطراً من إيران، ما يوجب إعادة بناء قيادة المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال لمواجهة التهديدات التي يمكن أن تشكلها مصر في المستقبل، حيث كان من المفترض أن تصل كلفة هذا المشروع إلى 30 مليار دولار (معاريف،22/4/2012).
وقد انطلق قادة الكيان الصهيوني ومحافل التقدير الاستراتيجي في تل أبيب من افتراض مفاده بأن التهديدات التي تنطوي عليها الثورات العربية ستفرض إدخال تغييرات جذرية على حجم ميزانية الأمن وبنيتها، علاوة على إعادة صياغة سلّم الأولويات الإسرائيلي بشكل جذري، ما يعني المس بقدرة الحكومة الصهيونية على تخصيص موازنات كافية للخدمات المدنية. وقد عبّر رئيس هيئة أركان الجيش الصهيوني في حينه، بني جانز، عن هذا التوجه، عندما قال إن التحولات التي يشهدها العالم العربي توجب تخصيص موازنات إضافية للجيش، مع كل ما يتطلبه الأمر من اقتطاع من موازنات الوزارات، ذات الطابع الخدماتي. وقد أوضح رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الصهيوني الأسبق، عاموس يادلين، في حينه، أن هناك حاجة إلى "انقلاب" في وجوه الإنفاق الحكومي لمواجهة التحديات التي نجمت عن سقوط نظام مبارك (يديعوت أحرونوت، 9/2/2011). وتوقع ميشيل ستربتسنسكي، نائب رئيس قسم الأبحاث في بنك إسرائيل أن يفضي تعاظم مستويات الإنفاق الأمني المتوقع في أعقاب التحولات في العالم العربي إلى انتهاج سياسة تقشف اقتصادية، وسيجبر مخططي السياسة الاقتصادية الإسرائيلية على التراجع عن توجهاتهم السابقة لتقليص الضرائب، على اعتبار أن المبدأ السائد في إسرائيل يقول إنه عند المفاضلة بين المناعتين، الأمنية والاجتماعية، يتوجب تفضيل الخيار الأول بدون تردد (جلوبس،31/1/2011).
لكن، لا يعدو كل ما تقدم أنه مجرد مزحة، مقارنة بما خشي صناع القرار في تل أبيب مما قد تحمله الأيام، في حال نجحت الثورة المصرية، ووصلت إلى مآلاتها المرجوة. فقد أكدت الخبيرة الاقتصادية الصهيونية، ميراف أورلزروف، أن نتنياهو وكل دوائر صنع القرار في تل أبيب فزعوا من إمكانية أن تفضي الثورة المصرية إلى ولادة ظروف تساعد على إلغاء اتفاقية كامب ديفيد التي تمثل أحد أهم أعمدة الأمن القومي الإسرائيلي. وحسب تقدير أورلزروف، فإنه في حال تم إلغاء "كامب ديفيد"، فإن هذا يعني حدوث طفرة كبيرة على حصة موازنة الأمن من الموازنة العامة، تماماً كما اضطرت غولدا مائير في أعقاب حرب 73 إلى زيادة موازنة الأمن، لتبلغ 47% من الموازنة العامة، ولتشكل 37% من الناتج القومي (صحيفة ذي ماركر،31/1/2011). وتشير أورلزروف إلى أن إسرائيل لم تتخلص من الأعباء الهائلة لموازنة الأمن، إلا بعد التوقيع على "كامب ديفيد"، حيث شكل ذلك الحدث نقطة تحول فارقة، أفضت إلى تراجع موازنة الأمن، لتصل، الآن، إلى 15.1% من الموازنة العامة، و6% من إجمال الناتج القومي. صحيح أن أوضاع إسرائيل الاقتصادية حاليا أفضل بكثير مما كانت عليه بعيد حرب 73، لكن هذا يدلل على فداحة الهواجس التي عصفت بمؤسسة الحكم الصهيونية، في أعقاب الثورات العربية. وقد كان من المؤكد أن الثورات العربية ستقلص من قدرة الحكومات الإسرائيلية على اتخاذ قرارات مستقلة، في كل ما يتعلق بالقضايا التي تعدها تمس أمنها "القومي"، لأن نجاح هذه الثورات كان يؤذن بزيادة اعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة، فلم يتردد إيهود باراك، وزير الحرب السابق في حينه، في مطالبة الإدارة الأميركية بدفع 20 مليار دولار لتحسين قدرة إسرائيل على مواجهة التبعات الأمنية للثورات العربية (ذي ماركير،8/3/2011).
والواضح أن الثورات المضادة لم تصفّ فقط مخاطر كثيرة كانت تحذرها تل أبيب بعد تفجر الثورات العربية، بل فتحت آفاقاً أسهمت فقط في تعزيز الاقتصاد الإسرائيلي. فمن الواضح أن نظام حكم يستند بحق إلى ثورة 25 يناير لم يكن ليسمح بأن تتدفق مليارات الدولارات إلى الخزانة الإسرائيلية، قيمة لصفقة بيع الغاز الذي اغتصبه الصهاينة من حقوق، تعود ملكيتها لمصر وفلسطين. والواضح أن هناك عوائد اقتصادية غير مباشرة منحتها الثورات المضادة لإسرائيل، تمثلت خصوصاً في تقليص الموارد التي تخصصها لمواجهة المقاومة الفلسطينية، بعدما برز دور نظام السيسي في محاربة هذه المقاومة.