الحكومة أم الجيش أم الأسرى أم الخسائر الاقتصادية المتزايدة، عناوين كثيرة يحاول الكيان الصهيوني اخفاءها واخفاء الأزمة التي يعانيها، في مقابل محاولته وضع صورة الحرب والدمار في غزة لإظهار ولو صورة انتصار واحدة بعد الهزيمة المدوية وفقدانه الردع والهيبة في عملية طوفان الأقصى.
تتزايد الانقسامات داخل الكيان الصهيوني حول كيفية إنهاء الأزمة وحول كيفية التعامل مع كافة الملفات الشائكة وعلى رأسها قضية الأسرى والجيش الذي أصبح محط انتقادات واسعة من المستوطنين، الذين عبروا صراحة عن فقدانهم الأمن والثقة فيه.
الكلام الذي قاله الوزير عميحاي إلياهو، من "قوة يهودية"، عن إمكانية إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة ليس مشكلة علاقات عامة في الكيان الصهيوني، بل مشكلة في الواقع الصهيوني نفسه، فالمشكلة ليست في هذا التصريح أو ذاك، بل في شرعية الحكومة التابعة لليمين اليهودي المتطرف، الذي يدعم الضم والاحتلال والصلاة في الحرم القدسي، ويرى الحرب كفرصة ويزدري المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية وقوانين الحرب.
هذه ليست زلة لسان، في مقابلة إذاعية، قال إلياهو إنه في القتال في غزة، "لا يوجد غير متورطين"، وردا على سؤال حول ما إذا كان هذا يعني أنه يجب إسقاط نووي على قطاع غزة، أجاب: "إنها طريقة واحدة".
أيضا عضو الكنيست إسحاق كرويزر من حزبه قال لإذاعة عبرية: "يجب تسوية قطاع غزة بالأرض، ولكل واحد فيهم عقوبة واحدة وهي الموت، يجب محو قطاع غزة عن الخريطة، فلا يوجد أبرياء هناك".
إنها عقلية وطريقة تكير واحدة من اليمين المتطرف: بتسلئيل سموتريتش، إيتمار بن غفير، سيمحا روثمان، أوريت ستروك، آفي ماعوز، تسفي سوكوت، ليمور سون هار ميليخ وغيرهم.
رد نتنياهو كان هزيلا حيث قال إن تصريحات إلياهو “منفصلة عن الواقع ومنعته من حضور اجتماعات الحكومة حتى إشعار آخر"، هذا الرد يظهر بأن نتنياهو لا يزال أسير الخوف من انفراط عقد الحكومة وأسير خوف على مستقبله السياسي.
بحسب افتتاحية التحرير في صحيفة هآرتس العبرية "فان نتنياهو ليس الحل بل هو المشكلة: إنه يشرعن الكاهانية واليمين المتطرف، ومن كانوا مُبعدين بدافع الاشمئزاز أصبحوا وزراء كبار في الحكومة"، فيما أضافت الصحيفة بأن نتنياهو هو من أضفى الشرعية على التحالف السياسي مع ممجّدي الحاخام مئير كاهانا وباروخ غولدشتاين وقاتل عائلة دوابشة تحت قيادته، بدأ المستوطنون يتطلعون إلى مناطق “ب”، وتحول شبيبة التلال من أهداف للشاباك إلى وزراء وأعضاء كنيست ومساعدين ومستشارين".
واعتبرت الصحيفة أن الحل هو إبعاد اليمين المتطرف من الحكومة وإلى خارج حدود الكيان الصهيوني إن الطريقة الوحيدة للتبرؤ من كلام إلياهو هي التنصل منه ومن أشباهه: "يجب طرد الصهيونية الدينية و"قوة يهودية" من الحكومة على الفور.
الأسرى ليسوا أولوية
بعدما فرضت قضية استعادة الأسرى الصهاينة في قطاع غزة، نفسها على الرأي العام والقيادة السياسية، عمدت الأخيرة إلى الالتفاف على مطالب عوائلهم عبر ربط إطلاق سراحهم بالعملية البرّية، وبلغ الأمر بنتنياهو أن ربط مواصلة القصف بإطلاق سراح الأسرى، ويهدف من وراء ذلك إلى تجنُّب السيناريو الكابوس، وهو تلبية مطلب المقاومة في تبييض السجون الصهيونية من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيّين، التي ستتحوَّل إلى طوفان جديد وإنجاز تاريخي للمقاومة؛ لذلك يسعى من خلال ربط هذا الاستحقاق بالعملية البرّية من أجل تحقيق أكثر من هدف.
تسعى قيادة العدو بذلك إلى تعطيل مفاعيل ورقة الأسرى بيد المقاومة ومنعها من ابتزازها وتحقيق إنجازات تاريخية غير مسبوقة في هذا المجال؛ إلا أنّ صداها في الداخل الصهيوني يؤشِّر إلى وجود أرضية لإمكانية استغلال هذه الورقة وأن يكون لها تأثيرها لاحقاً.
يهدف هذا الربط أيضاً إلى محاولة تأجيل استحقاق الأسرى إلى مراحل لاحقة، إلى حين نضوج الجمهور والمناخ السياسي الذي يسمح بصفقة تبادلٍ تاريخية، إن لم تنته التطوُّرات إلى ما يأملون. أو انتظار ما ستؤول إليه العملية البرّية
حتى الآن، يوجد نوع من التجاذب بين قيادة العدو التي تحاول فرض أولوية العملية البرّية وانتظار ما ستحقِّقه، وبين مساعي عوائل الأسرى الذين لا يزالوا يرفعون الصوت بهدف فرض قضيتهم على الساحتين الإعلامية والسياسية.
ويبرز في هذا المجال أيضاً نتيجة تحريك حماس لهذه الورقة عبر الإفراج عن عدد منهم، ونشر فيديو تناشد فيه إحدى الأسيرات نتنياهو لتحريرهم، هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ الكيان الصهيوني منع نشر ذلك على قنوات التلفزة العبرية، وإنّما شاهده الرأي العام من خلال قنوات أجنبية.
بالموازاة، تشهد الساحة الإعلامية العبرية نوعاً من السجال بين مقاربتين حول قضية الأسرى، قسم يتبنّى المقاربة التي تُروِّج لها القيادة السياسية بربطها بالعملية البرّية، وقسم آخر يرى أنّه لا يمكن الجمع بين الأمرين وأنّ على الكيان أن يختار أحدهما.
والملفت في هذا المجال أنّ البعض يقترح تلبية مطالب المقاومة بتبييض السجون من الأسرى الفلسطينيّين مقابل كامل الأسرى والمعتقلين الصهاينة، ومن ثمّ شنّ الحرب البرّية والقضاء على الجميع، إلا أنّ ما أعلنه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة، وضع إطلاق سراحهم ضمن صفقة تبادل، وبدورها تكون أيضاً جزء من مسار يبدأ بهم وينتهي بمسار سياسي.
الواقع أنّ قيادة العدو، بحسب بعض المُحلّلين، أمام خيارين، إمّا إجراء صفقة تبادل شاملة والتنازل عن هدف تقويض سلطة حماس، بكلّ ما يعنيه ذلك من أثمان تتعلّق بالردع وبإمكانية إعادة سكّان غلاف غزة إلى بيوتهم، أو تنفيذ العملية البرّية الشاملة مع كلّ ما يترتّب على ذلك من نتائج، ودفع الثمن بالتضحية بغالبية الأسرى أو جميعهم.
مع ذلك، فإنّ السيناريو الأسوأ الذي لا يمكن أن تتجاهله القيادة الصهيونية، هو أن تتورَّط في عملية برّية واسعة وتتكبّد خسائر فادحة من ضمنهم جزء من الأسرى، ومن ثمّ الاضطرار لعقد صفقة تبادل تُشكِّل انتصاراً جديداً للمقاومة وهزيمة جديدة لكيان العدو.
الجيش.. البقرة التي لم تعد مقدسة
صدمة طوفان الاقصى والاهتزاز والضربة الكبيرة التي تعرض لها الجيش الصهيوني والردع الصهيوني جعلت جميع الشرائح في الكيان تقف خلف حكومة الحرب، إلا أنه بعد مرور وقت قصير بدأت تتكشف مسائل متعددة منها ما يتعلق بمكانة الجيش في الدولة والمجتمع الصهيوني، هذا الجيش الذي لم يكن أحد يستطيع أو يرغب أو لديه الإمكانية الحديث حوله والذي كان كالبقرة المقدسة فممنوع التعرض له، بات اليوم محط خلاف كبير بدأ مع بداية الأزمة السياسية في الكيان الصهيوني وبعد طوفان الاقصى أصبح الخلاف حول دوره وحول قدرته على تأمين الحماية والأمن للمجتمع الصهيوني الذي يدفع ضرائب مقابل خدمة احترافية من الجيش.
وبذلك عاد الانقسام بسرعة لكن أضيف له مجال جديد حول أهلية الجيش وقدرته على مجابهة التحديات الأمنية والعسكرية، إضافة إلى الخلاف الجوهري مع الحكومة بقيادة نتنياهو الذي يرفض حتى الآن الاعتراف بالفشل أو تحمل المسؤولية حول ما جرى في السابع من أكتوبر، في الوقت الذي يعترف ويقر به العديد الوزراء.
جاءت عملية “طوفان الأقصى” لتضرب على رأس كيان الاحتلال وتزيد من عمق الأزمة وتعزز مسارات انعدام الثقة بين أطراف الأزمة. فالفشل الاستخباري والعسكري الكبير الذي مُنيت به المؤسسة العسكرية والأمنية للاحتلال يوم 7 أكتوبر أضعف من موقفهم الداخلي بشكل كبير.
ذلك ما أدركته الإدارة الأمريكية منذ اللحظة الأولى وعملت على تولي زمام المبادرة في المحافظة على تماسك الوضع الداخلي للكيان وعلى إدخال مكونات من المعارضة في حكومة تبدو كأنّها حكومة “وحدة وطنية” ضمت وزير الحرب السابق بيني غانتس لحكومة نتنياهو، في إشارة إلى تجاوز الخلاف الداخلي أمام هذا التحدي الوجودي الذي يهدّد دولة الاحتلال.