كرّس استهداف عدد كبير من دبابات جيش الاحتلال وآلياته المتوغّلة في قطاع غزة، بأنواع مختلفة من القذائف الصاروخية، وعرقلة تقدّمها، واستمرار إطلاق الصواريخ نحو تل أبيب، أمس، ثبات المقاومة الفلسطينية على قدرتها العالية على المواجهة والصدّ، بما يشير إلى أن كلّ تلك الآلاف من الأطنان من القنابل التي دمّرت القطاع، وأوقعت كلّ هذا العدد من الشهداء بين المدنيين، ومعها الحرب البرية، لم تُفد حتى في التخفيف من شدّة المقاومة.
وعلى رغم الخرق الميداني الذي تحقّق للعدو ليل الجمعة - السبت، ووصلت فيه دباباته إلى عمق معيّن في بعض الأحياء المدنية في وسط مدينة غزة، إلا أن المؤشرات الحالية لا تشي بأن المقاومة في وارد الانكسار؛ إذ إنه كان معروفاً منذ البداية أن الخطوط الدفاعية المتقدّمة، ستقوم بدور إشغال القوات وعرقلة تقدّمها البري قدر المستطاع، وليس منعها من التوغّل من الأساس، وذلك بالنظر إلى حجم التمهيد الناري وسياسة «الأرض المحروقة»، التي اتُّبعت في تمهيد خطوط التوغّل، والتي لم تبدأ مع العملية البرية قبل أكثر من أسبوعين فقط، إنما بدأت في الليلة الثانية من عملية العبور (طوفان الأقصى) في السابع من تشرين الأول الماضي.
وفي حين أعلنت «كتائب القسام» تدمير عدد من الآليات المتوغّلة على محاور غرب مدينة غزة وجنوب غربها وشمال غربها، سُجّلت هجمات متعدّدة ضدّ جنود الاحتلال في بيت حانون شمال القطاع، وهو ما يؤكد أن التوغّل "الإسرائيلي"، مهما بلغ مداه، فلن يوقف القتال في المناطق التي يصل إليها. وما بين الثانية من فجر أمس، وساعة متأخرة من الليل، أعلنت «القسام» وحدها تحقيق عشرة أهداف - بخلاف الاشتباكات المباشرة وإطلاق الصواريخ -، تمثّلت في تدمير ناقلة جند واحتراقها بالكامل، واستهداف أربع دبابات في غرب مدينة غزة، وضرب أربع آليات في محور شمال غرب المدينة، ودبابة فضلاً عن قوات متوغّلة في الجنوب الغربي. واستُخدمت في هذه الهجمات قذائف «الياسين 105» و«التاندوم» و«الهاون» من العيار الثقيل.
كما دكّت الكتائب قوات العدو المتوغّلة شرق جحر الديك بقذائف «الهاون» من العيار الثقيل. وفي شمال بيت حانون، أقصى شمال قطاع غزة، استهدف مقاتلو المقاومة، قوة "إسرائيلية" خاصة متحصّنة في مبنى بقذيفة «تي بي جي»، ودبابتين بقذيفتَي «الياسين 105»، وقنصت جندياً "إسرائيلياً" وأصابته إصابة مباشرة. وفي بيت حانون أيضاً، لم تستطع القوات البرية "الإسرائيلية" اختراق خطوط الدفاع الأولى للمقاومة، وانحصر القتال في محيط مبنى مدرسة الزراعة أقصى شمال المدينة.
وكان «الإعلام العسكري» لـ«كتائب القسام» قد أعلن تنفيذ كمين محكم في ذلك المحور، جرى خلاله تفجير عبوات شديدة في فوهة نفق تجمّع حوله عدد من الجنود، ما أدى إلى مقتل خمسة منهم وإصابة آخرين.
وفيما واصلت «القسام» عرقلة تقدّم الدبابات على محور شرق حي الزيتون جنوب مدينة غزة، جرى الحديث عن خوض المقاومة مواجهات عنيفة جداً مع القوات المتوغّلة على محور الشيخ عجلين. كذلك، قصفت «الكتائب» تل أبيب برشقة صاروخية.
وأعلن المتحدث باسم «كتائب القسّام»، أبو عبيدة، أن المقاومة تمكّنت من تدمير 20 آلية كلياً أو جزئياً خلال 48 ساعة، مؤكداً، في كلمة مسجّلة بُثّت مساء أمس، أن توغّل الآليات في غزة سيكبّد العدو المزيد من الخسائر. واعتبر أن «الأحلام المريضة لقادة الاحتلال بالقضاء على حركة حماس هي هروب من الهزيمة المدوّية».
وعن الوساطة القطرية قال إن «العدو طلب الإفراج عن 100 امرأة وطفل محتجزين في القطاع، مقابل 200 طفل فلسطيني و75 امرأة فلسطينية في سجونه، لكننا قلنا إننا نستطيع الإفراج عن 50 أسيراً ويمكن أن يرتفع العدد إلى 70 بحسب الظروف، مقابل وقف إطلاق نار لمدة 5 أيام والسماح بإدخال المساعدات إلى جميع أنحاء القطاع، لكنّ العدو لا يزال يماطل ويهرب، بل لا يهمّه مقتل أسراه».
وأعلنت "سرايا القدس"، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، عن قصف جنود وآليات الاحتلال المتوغلة في شارع 10 جنوب غزة بقذائف الهاون الـ 60 النظامي، كما قصفت بقذائف الهاون التحشدات العسكرية المتوغلة في محيط مصنع النسيج قرب نادي الفروسية في محور شمال غرب غزة.
كما استهدفت سرايا القدس الآليات "الإسرائيلية" المتوغلة في أرض أبو عريبان جنوب حي الزيتون، برشقة صواريخ 107.
وقال المراسل العسكري لسرايا القدس "لا زال مجاهدونا يخوضون اشتباكات ضارية مع قوات العدو الصهيوني في محيط مجمع الشفاء الطبي، وحي النصر ومحاور التقدم غرب وجنوب غزة".
وفي ضوء كل ذلك، يصبح غير ذي صلة زعْم وزير حرب العدو، يوآف غالانت، أن «حماس فقدت السيطرة على غزة، ومقاتليها يفرّون إلى الجنوب والمدنيين ينهبون قواعدها، (لأنهم) ما عادوا يؤمنون بها». وأتى هذا في وقت أظهر فيه الأميركيون بعض الاختلاف مع حكومة بنيامين نتنياهو، إذ طالب الرئيس الأميركي، جو بايدن، بضرورة حماية المستشفيات في غزة، وقال إنه يأمل في عدم اتخاذ إيّ إجراءات لاقتحام «مستشفى الشفاء» في القطاع، بينما أعلنت وزارة الخارجية في واشنطن، في بيان، أن كلام نتنياهو عن البقاء في غزة «يختلف عن رؤيتنا».
خريطة الميدان
وحافظت الدبابات "الإسرائيلية" على نقاط تمركز في الشريط الغربي من شمال القطاع ومدينة غزة، يبدأ عميقاً بعض الشيء في أطراف أحياء الشيخ رضوان والعيون وشارع النصر، حيث توغّلت الدبابات في عمق يصل إلى ثلاثة آلاف متر، ألفان منها مناطق فارغة ومكشوفة، وصلت إليها في الأيام الأولى من بدء العملية البرية. ثمّ يضيق عمق التوغّل كلّما اتجهنا جنوباً إلى أحياء الرمال، بسبب التصاق البناء الحضري مع الشاطئ، وانعدام المساحات المكشوفة، حيث تقدّمت الدبابات خلال الأيام الثلاثة الماضية، في عمق لم يتجاوز الألف متر. وحافظت الآليات المتوغّلة على سلوك منضبط جداً؛ إذ ثبّتت مواقعها من دون أن تبادر إلى تنفيذ عمليات تمشيط راجلة لمئات المباني المحيطة، أو تحاول تطوير هجومها إلى مناطق جديدة.
وفي محيط «مستشفى الشفاء»، حيث تحيط الدبابات بالمجمع الطبي من جهاته الأربع، وتبعد عنه في مدى أقصى مسافة 500 متر، جرى الحديث عن معارك عنيفة جدّاً خاضها المقاومون وأجبروا خلالها القوات المتوغّلة على حصر الجهد الميداني بتكثيف عمل سلاح الطيران، الذي أُدخلت في تشكيلاته منظومات غير تقليدية من مثل الطائرات المُسيّرة الصغيرة المتفجّرة، وتلك التي تطلق الرصاص وتشتبك من السماء، فضلاً عن التحليق الشديد الكثافة للطائرات المُسيّرة المقاتلة.
ويعطي جيش العدو الأولوية على محور «الشفاء»، للعمل عن بعد؛ إذ جرى قصف مباني المجمع بصورة متواصلة بالمدفعية، وأطلقت المُسيّرات الرصاص على كلّ من يتحرّك داخل المباني أو في المحيط. ويزعم محلّلون عسكريون "إسرائيليون" أن لواءَين عسكريين من «كتائب القسام» يرابطان في الأنفاق المحيطة بالمستشفى، لكنهم لم يقدّموا أيّ معطيات تؤكد ذلك الادّعاء.
في انتظار الهجوم
لا يبدو أن خريطة الميدان ستظلّ على حالها، إذ تقدّر أوساط مقرّبة من المقاومة أن الوقت الذي تحتاج إليه لاستيعاب الخرق العميق في المحور الغربي من شمال القطاع ومدينة غزة، قد استُنفد فعلاً، وأن العمل على تنفيذ هجوم معاكس، هو مسألة وقت فقط. ولن يكون أسلوب التصدّي المرتقب، وفق التقديرات، مغايراً لأساليب العمل السابقة، والتي تعتمد «اللدغة القاتلة»، أو الظهور المفاجئ، وإعادة الكمون، وهو تكتيك اتّبعه مقاتلو «القسام» واستطاعوا عبره تدمير أكثر من 160 دبابة في مختلف محاور القتال، ويمكن أن يعاد إنتاجه على نحو أكثر فعالية في القتال داخل المدن والكتل العمرانية. والواضح أن المبدأ الذي يحكم عمل المقاومة، هو تقليص حجم الخسائر البشرية إلى أقصى مدى ممكن، والعمل بمجموعات محدودة العناصر وشديدة التأثير ومضمونة الإنجاز. وفيما لم تحقّق القوات البرية الإسرائيلية أيّ صورة إنجاز حقيقية، من مثل اعتقال عدد كبير من مقاتلي «القسام» مثلاً، أو تحرير مجموعة من الأسرى، فإن انخفاض حدّة الضغط الميداني في المحور الغربي في الوقت الحالي، لا يُفهم منه إلا أنه يأتي في سياق إعادة التموضع وصناعة التكتيكات المناسبة لميدان القتال الحالي.