كانت عقارب الساعة تُشير إلى الثانية فجرًا، البرد قارص، والأجواء متوترة جدًا، وصرخات مدوية تخرج من صميم القلب، وإلى الخلف يقف رجل غليظ لا يبدوا عليه الرحمة ولا الرأفة، يُمسك بيده القاتلة سلك شائك ثم يرفعها إلى أعلى رأسه وينزلها بشكل مجنون لتنخر ظهور المحتجزين وتتطاير منه الدماء يمينة ويسرة، هذا ليس مشهدًا خياليًا لدور السينما إنما مشهد واقعي يُجسد حالة التعذيب والإهانة والقسوة التي تعرض لها المحتجزين الفلسطينيين على أيدي جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي.
تغطية متواصلة على قناة وكالة "شمس نيوز" في "تليغرام"
المشهد السابق هو جزءٌ من مراحل التعذيب القاسية التي عاشها الطفل أحمد أبو راس (14 عامًا) بشكل مرعب والعشرات من أبناء عائلته بعدما تمكنت قوات الاحتلال من اعتقالهم جميعًا من بيوتهم في شارع -وادي العرايس- بحي الشجاعية شرق مدينة غزة، إذ قال الطفل: "تعرضنا لظروف قاسية ومرعبة تنوعت ما بين الضرب والإهانة والإذلال، لم نستوعب ما جرى معنا".
الرصاص فوق رؤوسنا
بدأت حكاية اعتقال الطفل أحمد وعائلته قبل نحو (5 أيام)، كانت اشتباكات ضارية بين جنود الاحتلال ورجال المقاومة على حدود حي الشجاعية من الجهة الجنوبية، ويقترب صوت الاشتباكات رويدًا رويدًا إلى مسامع عائلة أبو راس التي تجلس في بيتها وتستضيف نحو 60 شخصًا من أقاربهم ومعارفهم من أهل الحي نتيجة فرارهم تحت أزيز الطائرات وصفير الرصاص القاتل.
يومان من الاشتباكات الضارية على حدود الشجاعية قبل أن يقترب صوت الدبابات والجرافات في الأرض المقابلة لبيت "أبو راس".. الرصاص لم يتوقف لحظة واحدة والجرافة العسكرية بدأت تضرب جدران البيت دون أي رحمة أو رأفة بالأطفال والنساء من جنود الاحتلال الإسرائيلي، يقول الطفل لمراسل "شمس نيوز": "ناشدنا جنود الاحتلال بألا يفجروا البيت أو يهدموه فوق رؤوسنا لكن دون استجابة وفي تلك اللحظة قرر الرجال الخروج من البيت بشكل جماعي رافعين الراية البيضاء على أمل ان يتوقف جنود الاحتلال عن إطلاق النار".
يصف الطفل المشهد بالمرعب جدًا وهو يتلعثم قائلًا: "خرجنا جميعًا من البيت رافعين أيدينا إلى السماء لكن جنود الاحتلال أطلقوا النار فوق رؤوسنا وإلى جانبنا بشكل مكثف كنا نشعر بالخوف والرعب"، وفي تلك اللحظة يُخرج جندي إسرائيلي رأسه الصغيرة من الدبابة المحصنة وإذ به يرتدي طاقية تتسع لرأسين؛ فكان مشاهد الجندي وهو يصرخ بوجه المحتجزين مضحك جدًا.
تكاثر الجنود من حول المحتجزين وأجبروهم على تفريقهم إلى جزئين رجال ونساء، يقول الطفل أحمد: "كان بحوزتنا حقائب كثيرة وجوالات لكن الجنود طالبونا بترك الحقائب والجوالات وتقسيمنا إلى جزئين فكان نصيبي أن أذهب مع الرجال، بكيت كثيرًا وطالبتهم بالذهاب مع امي وإخوتي دون أي رحمة، قلت لهم إني طفل 14 سنة فأجابوني بغلظة أنت مع الرجال وضربوني".
5 أيام لم نأكل ولم نشرب
مشهد اعتقال أحمد لم يختلف عن اعتقال الطفل موسى أحمد علي، الذي زاد عليه مشهد أكثر خطورة وألمًا، فبعد اقتراب الدبابات من منزلهم على حدود الشجاعية حاول أبو موسى الخروج من المنزل مع أبناء عائلته؛ لكن كلما خرج أحدهم أصيب برصاص قناص ليسقط شهيدًا على باب المنزل.
لم يكن أمام عائلة علي إلا أن تُضحي بطفلة صغيرة تحمل راية بيضاء وتخرج من باب المنزل في مواجهة قناصة الاحتلال والدبابات المجنزرة والجرافات المحصنة، وبعد وقت نجحت الخطة وخرجت أفراد العائلة يرفعون أقدامهم فوق جثامين الشهداء التي تناثرت دمائهم في كل مكان.
ويكمل الطفل موسى علي (16 عامًا) حكاية الاعتقال المرعبة، إذ يقول لمراسل "شمس نيوز": "تجمع أفراد العائلة نحو (60 شخصًا) في بركس لأبناء الحي وهم رافعين أيديهم إلى السماء وقد جردهم الاحتلال من ملابسهم كاملة، وأغمى عيونهم بشدة، دقائق معدودة حتى وصلت دفعة أخرى من المحتجزين ليصبح المكان مكتظًا بشكل كبير".
مر نحو ساعتين على تكدس المحتجزين قبل أن تصل شاحنات إسرائيلية تقل مجموعات من المحتجزين صوب الأراضي المحتلة، يُشير إلى أن "الشاحنة مزعجة جدًا، والجندي الذي يقودها كان يتلذذ بتعذيبنا، يسرع بشكل جنوني ثم يتوقف فجأة ليصطدم الجميع ببعضهم البعض، أو تضرب أجسادنا بحديد الشاحنة البارز ليخترق أجسادنا".
صوت أنين الرجال وقهرهم وإذلالهم كان يعلوا شيء فشيئًا دون أية رحمة من الجندي الإسرائيلي الذي لا يعلم في قاموسه؛ إلا القتل والجبروت والعنف والإجرام والإرهاب ضد الفلسطينيين أينما كانوا، يقول الطفل: "بعد ساعتين وصلنا إلى مكان لا نعلمه ولم نراه مطلقًا لكن بعض الرجال الذين يفهمون اللغة العبرية قالوا وصلنا إلى منطقة تُسمى "المنطقة"
معاناة الأطفال المحتجزين كانت مؤلمة جدًا فقد أشار الطفل موسى إلى أنهم لم يأكلوا أو يشربوا شيئًا منذ 5 أيام ولم يتمكنوا دخول الخلاء مطلقًا.
معاناة الإفراج مؤلمة
نحو 5 ليالي قضاها أحمد وموسى والعشرات من المحتجزين داخل الأراضي المحتلة قرب السياج الزائل شرق حي الشجاعية، كانت أشد الليالي تعذيبًا وقهرًا ومعاناة وإذلالًا في حياتهم جميعًا كما وصفها الرجل المريض نادر زنداح، لمراسل "شمس نيوز".
شعر المحتجزون بالجوع والعطش بشكل كبير جدًا وأرادوا الذهاب إلى الحمام؛ لكن كلما نطق أحدهم بقضاء حاجته وجد أمامه لكمة قاسية أو ضربة على الرأس من قاع البندقية، يقول زنداح: "تعرض الرجال لضرب شديد أحدهم كسرت زجاجة الوسكي على رأسه وآخر كان الجنود يطفؤون أعقاب السجائر بجسده".
وبعد 5 أيام من التعذيب والقهر والتحقيق أوضح زنداح بأن جنود الاحتلال كانوا يحققون معنا بأحداث (7 أكتوبر) وعن المقاتلين الذين شاركوا والذين قادوا الهجوم لكن لم يجدوا أي معلومة لدينا بعد 5 أيام من المعاناة والتعذيب القاسي، ثم قرروا الإفراج عنا".
وفي ساعات صباح اليوم السبت (9 ديسمبر 2023) قاد جنود الاحتلال مجموعة من المفرج عنهم وألقوهم في البرد القارص قرب دوار الكويت على شارع صلاح الدين وهددوهم: "اتجهوا إلى جنوب غزة وإذا عدتم إلى غزة سيتم قتلكم جميعًا".
اضطر زنداح ومن معه من المفرج عنهم كبار السن والأطفال من التوجه جنوبًا حتى التقى بهم أحد الرجال الذي اتصل بسيارات الإسعاف والتي بدورها هرعت مباشرة ونقلتهم إلى مستشفى شهداء الأقصى لتلقي العلاج اللازم.
لكن زنداح الذي يشعر بالقهر والمعاناة الشديدة قال: "أنا برقبتي 10 أطفال وزوجتي وين راحوا ليس لدي علم أين ذهب أطفالي أو زوجتي أو حتى أقربائي وأنا هنا في الوسطى أصبحت وحيدًا لا يوجد لدي زوجة أو أطفال أو عائلة أو أصدقاء"، متسائلًا: "أين أذهب؟ أين أتجه؟ كيف بدي أدور على عائلتي؟".
وكانت هيئة البث الإسرائيلية قالت: "إن جيش الاحتلال اعتقل منذ (السابع من أكتوبر 2023) حتى الآن نحو 700 فلسطيني في غزة إداريا وفق قانون "مقاتلون غير شرعيون".