لم يعد خافيا أن من يدير حرب الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، في قطاع غزة، هي الولايات المتحدة الأميركية، وأن من يدعم ويساعد كيان العدو، سياسيا واقتصاديا وبشريا وإعلاميا، هي الدول الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا في الصف الأول). هي إذا حرب الغرب الاستعماري والامبريالي على الشعب الفلسطيني، عبر الكيان الصهيوني، قاعدته العسكرية في المنطقة.
منذ اليوم الأول من حرب الإبادة المتوحشة ضد الشعب الفلسطيني (وليس ضد "حماس" فقط كما تستمر بعض الصحف العربية توصيف العدوان، من أجل التضليل)، سارعت الولايات المتحدة الأميركية الى إرسال كافة أنواع الأسلحة الى جيش العدو وهّددت ببوارجها الحربية كل من يفكّر بدعم المقاومة الفلسطينية. فأرسلت خبراءها العسكريين وضباطها وفتحت للعدو مستودعات أسلحتها الموجودة في قواعدها العسكرية في الدول المجاورة (أغلبها دول عربية).
فمنعت وقف العدوان مرارا عن طريق مجلس الأمن، كما منعت وصول المساعدات الإنسانية والطبية والوقود، الى أهل قطاع غزة، من خلال تحكمها، عبر كيان العدو، بعبور قوافل المساعدات المكدّسة أمام معبر رفح، وضغطها على الدول العربية من أجل مواصلة الحصار وتجويع أهل قطاع غزة، الحاضنة الشعبية للمقاومة.
لكن، في حين يعترف العدو الصهيوني بأنه ينفّذ مذابح يومية ويفتخر بذلك ويصوّر وحشيته وانحطاط قيمه ويتباهى بها أمام العالم، ما زال المتوحّش الأميركي يناور كلاميا ويصوّر نفسه بأنه "عقلاني" يرفض "الجنون" الصهيوني، ليحافظ على موقعه القيادي في العالم، وعلى بعض علاقاته مع العالم العربي والإسلامي. يتحدث تارة عن "حل الدولتين" ويتوعّد بالمستوطنين الهمج في الضفة الغربية، لإرضاء وكلاءه العرب والمسلمين، ولكنه لا يندّد بالاجتياحات اليومية التي ينفذها جيش المتوحشين الذي يقتل ويدمر ويعتقل، ويتحدث تارة أخرى عن ضرورة إنقاذ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وإرسال المساعدات، سعيا لتضليل الرأي العام العالمي وتغيير صورته البشعة التي توضّحت أكثر خلال هذه الحرب. وفي الحالتين، تكذب الولايات المتحدة، فهي لا تريد "حل الدولتين" إلا بصيغة صهيونية، ولا تريد فك الحصار عن قطاع غزة. فهي تسعى الى سحق الشعب الفلسطيني وإنهاء حلمه بالتحرير والعودة الى وطنه وتدمير مقاومته الباسلة.
لماذا تدخّلت الولايات المتحدة، ومن وراءها، الدول الأوروبية الحليفة، بهذا الإصرار على القتل والتدمير، الى جانب كيان استيطاني همجي؟ لأنها أدركت أن معركة "طوفان الأقصى"، وخاصة في يومها الأول، يوم 7 أكتوبر، أصاب كيان العدو في العمق بشلّ قدراته الأمنية والعسكرية والبشرية (الاستيطان)، وأكثر من ذلك، كما وضّح محمد الهندي، نائب الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، قبل عدة أيام، قائلا إن "الولايات المتحدة هي التي تقود الحرب الحالية على قطاع غزة من أجل اجتثاث المقاومة التي "ضربت كافة الترتيبات التي كانت تهدف لإنهاء قضية فلسطين وتسييد تل أبيب على المنطقة.. أن الولايات المتحدة كانت تخطط لوضع "إسرائيل" كبديل لها بالمنطقة حتى تنسحب لمواجهة الصين". لكن أحدثت عملية طوفان الأقصى صاعقة ضربت كافة هذه الترتيبات.
أثارت هذه الصاعقة غضب الولايات المتحدة التي تقود العدوان وتسعى الى إعادة ترتيب المنطقة، انطلاقا من قطاع غزة. في مقابلة موسعة معه، يوضّح د. سامي العريان، مدير مركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية، خلفيات مشاركة الولايات المتحدة الأميركية في العدوان على قطاع غزة وعلى الشعب الفلسطيني بشكل عام، نظرا لأهمية الكيان الصهيوني في السياسة الأميركية، وأهمية منطقة الشرق الأوسط أو ما سماها "المنطقة الثانية" للولايات المتحدة.
بالنسبة لأهمية الكيان، كان الراحل د. رمضان شلح، الأمين العام السابق لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، قد ألقى الضوء على التقارب الأميركي-الصهيوني فكريا وسياسيا بالقول: "أمريكا التي أبادت الهنود الحمر قامت باستعارة توراتية رأت في المستوطنين البيض من البروتستانت شعب الله المختار، لذلك أمريكا ترى طفولتها وشبابها في "إسرائيل" وطريقة نشأتها وفق المزاعم والأساطير التوراتية والتلمودية" (1997).. وتكلّم عن "عقلية الغطرسة الأمريكية التي تحاول الهيمنة على العالم، وعلاقتها بـ"إسرائيل" والتزامها العقائدي والاستراتيجي بها".
ونظرا لأهمية المنطقة للولايات المتحدة، تمكّنت هذه الأخيرة من إخضاع معظم الدول العربية لمصالحها وسيطرت على قرارها السيادي. فكتب الشهيد د. فتحي الشقاقي، الأمين العام المؤسس لحركة الجهاد الإسلامي بهذا الصدد: "لقد استطاعت الهجمة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية أن تربط الأنظمة العربية الهشة والمصطنعة... وباتت هذه الأنظمة لا ترى امكانية لاستمرارها الا في استمرار النفوذ الغربي في المنطقة المرتبط ارتباطاً وثيقاً ببقاء الدور الذي يلعبه الكيان الصهيوني. إن هذه العلاقة المعقدة بين أنظمة التجزئة والهجمة الغربية لا تعود الى ارتهان النخب الحاكمة للغرب فحسب، بل تعود في جزء منها أيضاً الى استعباد الاقتصاد العربي والإسلامي عموماً لنظام السوق وآلياته، ما أفقد الحكومات العربية، وبالتالي الشعوب العربية، حريتها وقدرتها على اتخاذ قرارات بمنأى عن السياسات الغربية."
إن عدم توجيه النقمة الشعبية ضد الهيمنة الأميركية والغربية لم تفشل "الثورات" العربية فحسب بل زادت التوغّل الأميركي في مقدرات الأمة، فأصبحت الولايات المتحدة تتحكّم بأنظمتها اليوم، ما يفسّر لماذا لم تتمكن هذه الأنظمة، حتى وإن أرادت ذلك، كسر الحصار الإجرامي على قطاع غزة والشعب الفلسطيني، وتقديم المساعدات الإنسانية والطبية، ولا منع تجويع مليوني انسان وأكثر.
إضافة الى سيطرتها على معظم الأنظمة العربية، من خلال مصالحها الاقتصادية وتواجدها العسكري والأمني والمخابراتي، واختراقها الثقافي والإعلامي لمجتمعات الأمة، تتحكم الولايات المتحدة، وبعض الدول الأوروبية، على المنظمات الدولية، أولها هيئة الأمم المتحدة وملحقاتها، وعلى منظمة الصليب الأحمر الدولي وغيرها من المنظمات غير التابعة للأمم المتحدة.
وضّح الشهيد الشقاقي موقع هيئة الأمم المتحدة والجهود الأميركية للسيطرة عليها، قائلا: "هناك هيئة الأمم المتحدة، التي كانت حصيلة اتفاق متفاوت بين دول العالم على تأسيس نظام علاقات دولي بعد الحرب العالمية الثانية، ورغم أن إرادة المنتصر كانت هي الخط الأساسي في شكل ومضمون الهيئة، إلا أن نوعاً من التوافقية والعقد بالتراضي كان يعطي لهذه الهيئة مشروعيتها وقدرتها على الاستمرار، واليوم إذ تحاول الولايات المتحدة فرض أرادتها الكلية على هذه المنظمة الدولية، فهي تقوِّض أسس الاستقرار السياسي الدولي، أو بالأصح لغة التخاطب السياسي الدولي المعمول بها، وبالتالي فهي تدمر مشروعية الهيمنة الغربية الأدبية..." (1994).
بعد حوالي ثلاثين عاما على هذه الملاحظة، أن الولايات المتحدة تسيطر اليوم بشكل شبه كليّ على هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها، التي امتنعت من إغاثة الشعب الفلسطيني الجريح والمستضعف من أنياب الوحش الصهيوني، بل تجاوبت بعضها مع العدو الهمجي بإخلاء مقراتها (الأونروا) شمال القطاع وعدم التعامل مع المقرات الحكومية، ولم تستجب منظمات أخرى (الصحة العالمية) الى نداءات المستشفيات بمساعدتها على إخلاء المرضى والجرحى والخدج، وبالمطالبة بالإفراج عن الأطباء الذين أسروا أمام أعينها من قبل العدو الصهيوني. والأمثلة كثيرة حول تواطؤ المنظمات الدولية مع العدو خلال هذا العدوان وما قبله.
لكن المقاومة المتمثلة اليوم بالمقاومة الفلسطينية البطلة وسائر حركات المقاومة في دول المحور ما زالت تسطر ملاحم يومية ضد الكيان الصهيوني، ما يبعث بالأمل نحو تغيير المشهد، في فلسطين والإقليم والعالم. تؤكد المقاومة الفلسطينية أنها تدافع عن الأمة، لأن هزيمة الكيان المرتقبة تعني تلقائيا تراجع الهيمنة الأميركية في الدول العربية وفي العالم. يتطلب ذلك ضغطا شعبيا واسعا ضد المصالح الأميركية في بلادنا ومعركة شعبية، تضم الشعوب الحرة، من أجل إعادة تشكيل هيئة الأمم المتحدة على أسس جديدة وتخليصها من الفساد والرشوة والهيمنة الأميركية والغربية.